كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 14)

وَالسُّلْطَانُ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْغُفْرَانِ، وَهُوَ التَّسَلُّطُ وَالتَّصَرُّفُ الْمَكِينُ.
فَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِيمَان مبدأ أصيل لِتَوْهِينِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ انْدَفَعَ سُلْطَانُ الشَّيْطَانِ عَنِ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَكِّلِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: فَسُلْطَانُهُ عَلَى مَنْ؟.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِقَرِينَةِ الْمُقَابلَة، أَي دون الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَحَصَلَ بِهِ تَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَقْرِيرِ مَضْمُونِهَا، فَلَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَصْرِ أَنَّهُ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ
وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَهْمَلُوا التَّوَكُّلَ وَالَّذِينَ انْخَدَعُوا لِبَعْضِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ.
وَمَعْنَى يَتَوَلَّوْنَهُ يَتَّخِذُونَهُ وَلِيًّا لَهُمْ، وَهُمُ الْمُلَازِمُونَ لِلْمِلَلِ الْمُؤَسَّسَةِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْهَدْيَ الْإِلَهِيَّ عَنْ رَغْبَة فِيهَا وابتهاج بهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ فَرِيقُ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ الْمُغَايَرَةَ، وَهُمْ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ لِلشَّيْطَانِ أَقْوَى.
وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ التَّوَلِّي، أَيِ الَّذِينَ يُجَدِّدُونَ تَوَلِّيهِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّمَا تَوَلَّوْهُ بِالْمَيْلِ إِلَى طَاعَتِهِ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ سُلْطَانُهُ، وَأَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ التَّوَلِّي بالإقلاع أَو بِالتَّوْبَةِ انْسَلَخَ سُلْطَانُهُ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّمَا عُطِفَ وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ دُونَ إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْوَصْفَيْنِ كَصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَوْصُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اجْتِمَاعُ الصِّلَتَيْنِ.
وَالْبَاءُ فِي بِهِ مُشْرِكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى الشَّيْطَانِ، أَيْ صَارُوا مُشْرِكِينَ بِسَبَبِهِ. وَلَيْسَتْ هِيَ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [سُورَة الْأَعْرَاف: 33] .

الصفحة 279