كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 15)

لِذَلِكَ السُّرَى الْعَظِيمِ، فَقَامَ التَّنْكِيرُ هُنَا مَقَامَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ احْتِيجَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1- 2] إِذْ وَقَعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ غَيْرَ مُنَكَّرَةٍ. (¬1)
وَ (عَبْدُ) الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هَنَا هُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ لَفْظُ الْعَبْدِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الرَّاجِع إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا مُرَادًا بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِأَنَّ خَبَرَ الْإِسْرَاءِ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ شَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَشَاعَ إِنْكَارُهُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَصَارَ الْمُرَادُ بِعَبْدِهِ مَعْلُومًا.
وَالْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لَا إِضَافَةُ تَعْرِيفٍ لِأَنَّ وَصْفَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ مُتَحَقِّقٌ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا تُفِيدُ إِضَافَتُهُ تَعْرِيفًا.
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الْكَعْبَةُ وَالْفِنَاءُ الْمُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ الْمُتَّخَذُ لِلْعِبَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَعْبَةِ مِنْ طَوَافٍ بهَا واعتكاف عِنْدهَا وَصَلَاةٍ.
وَأَصْلُ الْمَسْجِدِ: أَنَّهُ اسْمُ مَكَانِ السُّجُودِ. وَأَصْلُ الْحَرَامِ: الْأَمْرُ الْمَمْنُوعُ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَرْمِ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- وَهُوَ الْمَنْعُ، وَهُوَ يُرَادِفُ الْحَرَمَ. فَوَصْفُ الشَّيْءِ بِالْحَرَامِ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا يُنَاسِبُهُ، نَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ أَكْلُ الْمِيتَةِ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ

أَيْ مَمْنُوعٌ قُرْبَانُهَا لِأَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ بَيْنَهُمْ.
وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَمْنُوعِ مِنْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَمَلٌ مَا. وَيُبَيَّنُ بِذِكْرِ الْمُتَعَلَّقِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَدْ لَا يُذْكَرُ مُتَعَلَّقُهُ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الشَّهْرُ
¬_________
(¬1) وَأما قَوْله: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ فَذَلِك توكيد لِأَن المتحدث عَنْهُم ينكرونه وَلَا يعبؤون بِمَا أعد لَهُم فِيهِ من الْأَهْوَال.

الصفحة 12