كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 16)

وَلَمْ يَتَجَاوَزِ الْقُرْآنُ ذِكْرَ هَذَا الرَّجُلِ بِأَكْثَرِ مِنْ لَقَبِهِ الْمُشْتَهِرِ بِهِ إِلَى تَعْيِينِ اسْمِهِ وَبِلَادِهِ وَقَوْمِهِ، لِأَنَّ ذَلِك من شؤون أَهْلِ التَّارِيخِ وَالْقَصَصِ وَلَيْسَ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ، فَكَانَ مِنْهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُفِيدُ الْأُمَّةَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةً حِكَمِيَّةً أَوْ خُلُقِيَّةً فَلِذَلِكَ قَالَ الله: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً.
وَالْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ السُّؤَالُ عَنْ خَبَرِهِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِيجَازًا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، وَكَذَلِكَ حُذِفَ الْمُضَافُ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ أَيْ مِنْ خَبَرِهِ وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ.
وَالذِّكْرُ: التَّذَكُّرُ وَالتَّفَكُّرُ، أَيْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مَا بِهِ التَّذَكُّرُ، فَجَعَلَ الْمَتْلُوَّ نَفْسَهُ ذِكْرًا مُبَالَغَةً بِالْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِالْحَقِّ الَّذِي لَا تَخْلِيطَ فِيهِ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ الَّذِي يُوصَفُ بِذِي الْقَرْنَيْنِ بِمَا فِيهِ إِبْطَالٌ لِمَا خَلَطَ بِهِ النَّاسُ بَيْنَ أَحْوَالِ رِجَالٍ عُظَمَاءَ كَانُوا فِي عُصُورٍ مُتَقَارِبَةٍ أَوْ كَانَتْ قَصَصُهُمْ تُسَاقُ مَسَاقَ مَنْ جَاسُوا خِلَالَ بِلَادٍ مُتَقَارِبَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ وَشَوَّهُوا تَخْلِيطَهُمْ بِالْأَكَاذِيبِ، وَأَكْثَرُهُمْ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ الشَّاهْنَامَةِ الْفِرْدَوْسِيُّ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْأَكَاذِيبِ وَالْأَوْهَامِ الْخُرَافِيَّةِ.
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ الْمُسَمَّى بِذِي الْقَرْنَيْنِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا تَفَرَّقَتْ بِهِمْ فِيهِ أَخْبَارٌ قَصَصِيَّةٌ وَأَخْبَارٌ تَارِيخِيَّةٌ وَاسْتِرْوَاحٌ مِنَ الِاشْتِقَاقَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَهُمْ لَهُ مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِاخْتِلَافِ الْقَصَّاصِينَ الَّذِينَ عُنُوا بِأَحْوَالِ الْفَاتِحِينَ عِنَايَةَ تَخْلِيطٍ لَا عِنَايَةَ تَحْقِيقٍ فَرَامُوا تَطْبِيقَ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَيْهَا. وَالَّذِي يَجِبُ الِانْفِصَال فِيهِ بادىء ذِي بَدْءٍ أَنَّ وَصْفَهُ بِذِي الْقَرْنَيْنِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهُ وَهُوَ وَصْفٌ عَرَبِيٌّ يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ عُرِفَ بِمَدْلُولِهِ بَيْنَ الْمُثِيرِينَ لِلسُّؤَالِ عَنْهُ فَتَرْجَمُوهُ بِهَذَا اللَّفْظِ.

الصفحة 18