كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 16)

وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ حُذِفَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (قَبْلُ) . وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ مُوسَى أَوْ مِنْ قَبْلِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ بِنَاءَ (قَبْلُ) عَلَى الضَّمِّ عَلَامَةُ حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَنِيَّةِ مَعْنَاهُ.
وَالَّذِي ذُكِرَ: إِمَّا عَهْدُ مُوسَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه:
13] وَقَوْلِهِ فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [طه: 16] وَإِمَّا عَهْدُ اللَّهِ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ بِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا رَجِعَ إِلَيْهِمْ غَضْبَانَ أَسِفًا، وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [طه: 86] الْآيَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَهْدِ إِلَى آدَمَ: الْعَهْدُ إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُنْسِيَ فِيهَا.
وَالنِّسْيَانُ: أُطْلِقَ هُنَا عَلَى إِهْمَالِ الْعَمَلِ بِالْعَهْدِ عَمْدًا، كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ السَّامِرِيِّ فَنَسِيَ، فَيَكُونُ عِصْيَانًا، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ الْآيَةَ، وَقَدْ مَضَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [20، 21] . وَهَذَا الْعَهْدُ هُوَ الْمُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: 117] الْآيَةَ.
وَالْعَزْمُ: الْجَزْمُ بِالْفِعْلِ وَعَدَمُ التَّرَدُّدِ فِيهِ، وَهُوَ مُغَالَبَةُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْخَاطِرُ مِنَ الِانْكِفَافِ عَنْهُ لِعُسْرِ عَمَلِهِ أَوْ إِيثَارِ ضِدِّهِ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [227] . وَالْمُرَادُ هُنَا: الْعَزْمُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَإِلْغَاءُ مَا يُحَسِّنُ إِلَيْهِ عَدَمَ الِامْتِثَالِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان: 159] ، وَقَالَ فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 35] ، وَهُمْ نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَيَعْقُوبُ، وَيُوسُفُ، وَأَيوب، ومُوسَى، وداوود، وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَاسْتُعْمِلَ نَفْيُ وِجْدَانِ الْعَزْمِ عِنْدَ آدَمَ فِي مَعْنَى عَدَمِ وُجُودِ الْعَزْمِ مِنْ صِفَتِهِ فِيمَا عُهِدَ إِلَيْهِ تَمْثِيلًا لِحَالِ طَلَبِ حُصُولِهِ عِنْدَهُ بِحَالِ الْبَاحِثِ عَلَى عَزْمِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ عِنْدَهُ بعد الْبَحْث.

الصفحة 319