كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 16)

وَالِاجْتِبَاءُ: الِاصْطِفَاءُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي الْأَنْعَامِ [87] ، وَقَوْلُهُ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي النَّحْلِ [121] .
وَالْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ إِلَى النَّفْعِ. وَالْمُرَادُ بِهَا إِذَا ذُكِرَتْ مَعَ الِاجْتِبَاءِ فِي الْقُرْآنِ النُّبُوءَةُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ.
[123- 127]

[سُورَة طه (20) : الْآيَات 123 الى 127]
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ آدَمَ بِالْعِصْيَانِ وَالْغِوَايَةِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ جَزَاءِ ذَلِكَ. وَضَمِيرُ قالَ عَائِدٌ إِلَى رَبَّهُ [طه: 121] مِنْ قَوْلِهِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ.
وَالْأَمْرُ فِي اهْبِطا أَمْرُ تَكْوِينٍ، لِأَنَّهُمَا عَاجِزَانِ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الأَرْض إلّا بِتَكْوِينٍ مِنَ اللَّهِ إِذْ كَانَ قَرَارُهُمَا فِي عَالَمِ الْجَنَّةِ بِتَكْوِينِهِ تَعَالَى.
وجَمِيعاً يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمٌ لِمَعْنَى كُلِّ أَفْرَادِ مَا يُوصَفُ بِجَمِيعٍ، وَكَأَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ مِثْلَ: فَرِيقٍ، وَلِذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَغَيْرُهُ وَالْوَاحِدُ وَغَيْرُهُ، قَالَ تَعَالَى:
فَكِيدُونِي جَمِيعاً [هود: 55] وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ هُنَا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ اهْبِطا.
وَجُمْلَةُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ اهْبِطا. فَالْمَأْمُورُ بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ آدَمُ وَإِبْلِيسُ وَأَمَّا حَوَّاءُ فَتَبَعٌ لِزَوْجِهَا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ بَعْضُكُمْ خُطَّابٌ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ. وَخُوطِبَا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ عَدَاوَةُ نَسْلَيْهِمَا، فَإِنَّهُمَا أَصْلَانِ لِنَوْعَيْنِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَنَوْعِ الشَّيْطَانِ.

الصفحة 328