كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 16)
[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 30 إِلَى 33]
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
كَلَامُ عِيسَى هَذَا مِمَّا أَهْمَلَتْهُ أَنَاجِيلُ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ طَوَوْا خَبَرَ وُصُولِهَا إِلَى أَهْلِهَا بَعْدَ وَضْعِهَا، وَهُوَ طَيٌّ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي أَحْوَالٍ غَيْرِ مَضْبُوطَةٍ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالِابْتِدَاءُ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ أَلْقَاهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ بِأَنَّ قَوْمًا سَيَقُولُونَ: أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِيتَاءِ الْكِتَابِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ مُرَادٌ بِهِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ إِيتَاءَهُ إِيَّاهُ، أَيْ قدّر أَن يوتيني الْكِتَابَ.
وَالْكِتَابُ: الشَّرِيعَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكْتَبَ لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا تَغْيِيرٌ. فَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى كَإِطْلَاقِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْإِنْجِيلُ وَهُوَ مَا كُتِبَ مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ فَيَكُونَ الْإِيتَاءُ إِيتَاءَ عِلْمِ مَا فِي التَّوْرَاةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: 12] فَيَكُونَ قَوْلُهُ وَجَعَلَنِي نَبِيئًا ارْتِقَاءً فِي الْمَرَاتِبِ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا.
وَالْقَوْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَاضِي كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ وآتانِيَ الْكِتابَ.
الصفحة 98