كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 17)

وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ، أَيْ هُوَ الْمَوُجُودُ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمْ فَإِنَّهَا لَا وُجُودَ لَهَا، قَالَ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [الْحَج: 23] وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ هُوَ أَصْلُ بَقِيَّةِ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِلشِّرْكِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ ضَلَالَاتِ أَهْلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التَّوْبَة: 37] .
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، فَهِيَ لِبَيَانِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ.
وَوَجْهُ كَوْنِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَعْدُودَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُلَابِسَةً لِأَحْوَالِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ أَنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ دَالَّةٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ: إِمَّا بِدَلَالَةِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُودِ اللَّهِ وَإِلَى ثُبُوتِ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَإِمَّا بِدَلَالَةِ التَّمْثِيلِ عَلَى الْمُمَثَّلِ وَالْوَاقِعِ عَلَى إِمْكَانِ نَظِيرِهِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَوْتَى، وَمَجِيءِ
السَّاعَةِ، وَالْبَعْثِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ إِمْكَانُ ذَلِكَ حَقَّ التَّصْدِيقُ بِوُقُوعِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ بِهِ حَائِلٌ إِلَّا ظَنُّهُمُ اسْتِحَالَتَهُ، فَالَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ عَدَمٍ سَابِقٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِهِ الطَّارِئِ عَلَى وُجُودِهِ الْأَحْرَى، بِطَرِيقَةٍ.
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَحْيَاءَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا حَيَاةٌ يُمْكِنُهُ فِعْلُ الْحَيَاةِ فِيهَا أَوْ فِي بَقِيَّةِ آثَارِهَا أَوْ خَلْقُ أَجْسَامٍ مُمَاثِلَةٍ لَهَا وَإِيدَاعُ أَرْوَاحِهَا فِيهَا بِالْأَوْلَى. وَإِذا كَانَ كَذَلِك عُلِمَ أَنَّ سَاعَةَ فَنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ وَاقِعَةٌ قِيَاسًا عَلَى انْعِدَامِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ تَكْوِينِهَا، وَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُهَا قِيَاسًا عَلَى إِيجَادِ النَّسْلِ وَانْعِدَامِ أَصْلِهِ

الصفحة 205