كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 17)

وَقَوْلُهُ: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أَيْ إِن كَانُوا نذورا أَعْمَالًا زَائِدَةً عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ مِثْلَ نَذْرِ طَوَافٍ زَائِدٍ أَوِ اعْتِكَافٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ نُسُكًا أَوْ إِطْعَامَ فَقِيرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَالنَّذْرُ: الْتِزَامُ قُرْبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى مُلْتَزِمِهَا بِتَعْلِيقٍ عَلَى حُصُولِ
مَرْغُوبٍ أَوْ بِدُونِ تَعْلِيقٍ، وَبِالنَّذْرِ تَصِيرُ الْقُرْبَةُ الْمُلْتَزَمَةُ وَاجِبَةً عَلَى النَّاذِرِ. وَأَشْهَرُ صِيغَةٍ: لِلَّهِ عَلَيَّ ... وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ نَذَرَ عُمَرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ووفى بِهِ بعد إِسْلَامِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلْيُوفُوا- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا- مُضَارِعِ أَوْفَى، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَلْيُوفُوا- بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ لِأَنَّ كِلْتَا الصِّيغَتَيْنِ مِنْ فِعْلِ وَفَى الْمَزِيدِ فِيهِ بِالْهَمْزَةِ وَبِالتَّضْعِيفِ.
وَخُتِمَ خِطَابُ إِبْرَاهِيمَ بِالْأَمْرِ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ آخِرَ أَعْمَالِ الْحَجِّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي الْإِسْلَامِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ.
وَالْعَتِيقُ: الْمُحَرَّرُ غَيْرُ الْمَمْلُوكِ لِلنَّاسِ. شُبِّهَ بِالْعَبْدِ الْعَتِيقِ فِي أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَمْنَعُونَ مِنْهُ مَنْ يَشَاءُونَ حَتَّى جَعَلُوا بَابَهُ مُرْتَفِعًا بِدُونِ دَرَجٍ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ إِلَّا مَنْ شَاءُوا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيَّامَ الْفَتْحِ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ»
. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ حِكَايَةٌ عَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهَا أَحْكَامُ الْحَجِّ وَالْهَدَايَا فِي الْإِسْلَامِ.

الصفحة 250