كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 17)

كَأَنَّهُ سَلَكَ نَفْسَهُ فِي الِانْخِفَاضِ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ شِيَمِهِمْ كَمَا كَانَ التَّكَبُّرُ مِنْ سِمَاتِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غَافِر: 35] .
وَالْوَجَلُ: الْخَوْفُ الشَّدِيدُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ فِي [سُورَةِ الْحِجْرِ: 52] .
وَقَدْ أَتْبَعَ صِفَةَ الْمُخْبِتِينَ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ وَهِيَ: وَجَلُ الْقُلُوبِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِي سَبِيلِهِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقُ. وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ مَظَاهِرُ لِلتَّوَاضُعِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مَنْ جَمَعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَنْ لَمْ يُخِلَّ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِنْفَاقِ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ دَأْبُ الْمُخْبِتِينَ. وَأَمَّا الْإِنْفَاق على الضَّيْف وَالْأَصْحَابِ فَذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُتَكَبِّرُونَ مِنَ الْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الْبَقَرَة: 180] .
وَهُوَ نَظِيرُ الْإِنْفَاقِ عَلَى النُّدَمَاءِ فِي مَجَالِسِ الشَّرَابِ. وَنَظِيرُ إِتْمَامِ الْإِيسَارِ فِي مَوَاقِعِ الميسر، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
إِنِّي أُتَمِّمُ أَيْسَارِي وَأَمْنَحُهُمْ ... مثنى الأيادي وأكسوا الْجَفْنَةَ الْأُدُمَا
وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ: الصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْأَذَى فِي سَبِيلِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الصَّبْرُ فِي الْحُرُوبِ وَعَلَى فَقْدِ الأحبّة فمما تتشرك فِيهِ النُّفُوسُ الْجَلْدَةُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُخْبِتِينَ.
وَفِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرِ فَضِيلَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ إِذَا كَانَ تَخَلُّقًا بِأَدَبِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: 155- 156] الْآيَة.

الصفحة 261