كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 17)

: «يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ»
فَذَلِكَ نَفْعٌ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهَالِيهِمْ وَلَوْ بِالِادِّخَارِ مِنْهُ إِلَى رُجُوعِهِمْ إِلَى آفَاقِهِمْ.
وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَانْتِفَاعُ مَنْ لَيْسَ لَهُ هَدْيٌ مِنَ الْحَجِيجِ بِالْأَكْلِ مِمَّا يُهْدِيهِ إِلَيْهِمْ أَقَارِبُهُمْ وَأَصْحَابُهُمْ، وَانْتِفَاعُ الْمَحَاوِيجِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ بِالشِّبَعِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهَا وَالِانْتِفَاعِ بِجُلُودِهَا وَجَلَالِهَا وَقَلَائِدِهَا.
كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [الْمَائِدَة: 97] .
وَقَدْ عَرَضَ غَيْرَ مَرَّةٍ سُؤَالٌ عَمَّا إِذَا كَانَتِ الْهَدَايَا أَوْفَرَ مِنْ حَاجَةِ أَهْلِ الْمَوْسِمِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا قَرِيبًا مِنَ الْقَطْعِ كَمَا شُوهِدَ ذَلِكَ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، فَمَا يَبْقَى مِنْهَا حَيًّا يُبَاعُ وَيُنْفَقُ ثَمَنُهُ فِي سَدِّ خَلَّةِ الْمَحَاوِيجِ أَجْدَى مِنْ نَحْرِهِ أَوْ ذَبْحِهِ حِينَ لَا يَرْغَبُ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَوْ كَانَتِ اللُّحُومُ الَّتِي فَاتَ أَنْ قُطِعَتْ وَكَانَتْ فَاضِلَةً عَنْ حَاجَةِ الْمَحَاوِيجِ يُعْمَلُ تَصْبِيرُهَا بِمَا يَمْنَعُ عَنْهَا التعفّن فينتفع بِهَا فِي خِلَالِ الْعَامِ أَجْدَى لِلْمَحَاوِيجِ.
وَقَدْ تَرَدَّدَتْ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ أَنْظَارُ الْمُتَصَدِّينَ لِلْإِفْتَاءِ مِنْ فُقَهَاءِ هَذَا الْعَصْرِ، وَكَادُوا أَنْ تَتَّفِقَ كَلِمَاتُ مَنْ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَتَاوَى عَلَى أَنَّ تَصْبِيرَهَا مُنَافٍ لِلتَّعَبُّدِ بِهَدْيِهَا.
أَمَّا أَنَا فَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى كِلَا الْحَالَيْنِ مِنَ الْبَيْعِ وَالتَّصْبِيرِ لِمَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ النَّاسِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، لِيَنْتَفِعَ بِهَا الْمُحْتَاجُونَ فِي عَامِهِمْ، أَوْفَقُ بِمَقْصِدِ الشَّارِعِ تَجَنُّبًا لِإِضَاعَةِ مَا فَضَلَ مِنْهَا رَعْيًا لِمَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ نَفْعِ الْمُحْتَاجِ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ مَعَ عَدَمِ تَعْطِيلِ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ لِلْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنْهَا الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الْحَج: 36] وَقَوْلِهِ: وكَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ، جَمْعًا بَيْنَ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ.

الصفحة 268