كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 17)

وَالْغَرَضُ مِنْ خِطَابِهِمْ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ وَاسْتِهْزَاءَهُمْ لَا يَغِيظُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ أَدَاءِ رِسَالَتِهِ، فَفِي ذَلِكَ قمع لَهُم إِذْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ يُمِلُّونَهُ فَيَتْرُكُ دَعْوَتَهُمْ، وَفِيهِ تَثْبِيتٌ للنبيء وتسلية لَهُ فِيمَا يَلْقَاهُ مِنْهُمْ.
وَقَصْرُ النَّبِيءِ عَلَى صِفَةِ النِّذَارَةِ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَسْتُ طَالِبًا نِكَايَتَكُمْ وَلَا تزلفا إِلَيْكُم فَمَنْ آمَنَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا.
وَالنَّذِيرُ: الْمُحَذِّرُ مِنْ شَرٍّ يُتَوَقَّعُ.
وَفِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ الْمُؤْذِنِ بِالِاهْتِمَامِ بِنِذَارَتِهِمْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ مُشْرِفُونَ عَلَى شَرٍّ عَظِيمٍ فَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالنِّذَارَةِ.
وَالْمُبِينُ: الْمُفْصِحُ الْمُوَضِّحُ، أَيْ مُبِينٌ لِلْإِنْذَارِ بِمَا لَا إِيهَامَ فِيهِ وَلَا مُصَانَعَةَ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ تَقْسِيمٌ لِلنَّاسِ فِي تَلَقِّي هَذَا الْإِنْذَارِ الْمَأْمُورِ الرَّسُولُ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ لِبَيَانِ حَالِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَرْغِيبًا فِي الْحَالَةِ الْحُسْنَى وَتَحْذِيرًا مِنَ الْحَالَةِ السُّوأَى فَقَالَ تَعَالَى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ إِلَى آخِرِهِ ... فَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ فِي آياتِنا.
وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بِالْفَاءِ.
وَالْمَغْفِرَةُ: غُفْرَانُ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ شَرَائِعِ الشِّرْكِ وَضَلَالَاتِهِ وَمَفَاسِدِهِ. وَهَذِهِ الْمَغْفِرَةُ تُفْضِي إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فَازُوا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَالرِّزْقُ: الْعَطَاءُ. وَوَصْفُهُ بِالْكَرِيمِ يَجْمَعُ وَفْرَتَهُ وَصَفَاءَهُ مِنَ الْمُكَدِّرَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت: 8] ذَلِكَ هُوَ الْجَنَّةُ.

الصفحة 294