كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 17)

وَيَجُوزُ كَوْنُ الْكَفُورِ مَأْخُوذًا مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ بِاعْتِبَارِ آثَارِ الْغَفْلَةِ عَنِ الشُّكْرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِغْرَاق حَقِيقِيًّا.
[67]

[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 67]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67)
هَذَا مُتَّصِلٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا
رَزَقَهُمْ
[الْحَج: 34] الْآيَةَ. وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مَا اقْتَضَى الْحَالُ اسْتِطْرَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ:
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الْحَج: 37- 38] إِلَى هُنَا، فَعَادَ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الْحَج: 34] الْآيَةَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ. فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَبَقَ مِنَ الشَّرَائِعِ لِقَصْدِ إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، بِأَنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ لِأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ سَبَقَتْ إِلَّا مَنْسَكًا وَاحِدًا يَتَقَرَّبُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْمُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ. وَقَدْ جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ مَنَاسِكَ كَثِيرَةً فَلِكُلِّ صَنَمٍ بَيْتٌ يُذْبَحُ فِيهِ مِثْلُ الْغَبْغَبِ لِلْعُزَّى، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَمَا هُرِيقَ عَلَى الْأَنْصَابِ مِنْ جَسَدٍ ...
(أَيْ دَمٍ) . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا [الْحَج: 34] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ. وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ كَمَا عُطِفَتْ نَظِيرَتُهَا الْمُتَقَدِّمَةُ.

الصفحة 327