كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 17)

فَالْمُرَادُ بِ النَّاسُ هُنَا الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ النَّاسُ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمِينَ وَمُشْرِكِينَ.
وَفِي افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَتَنْهِيَتِهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ شِبْهٌ بِرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَمِمَّا يَزِيدُهُ حُسْنًا أَنْ يَكُونَ الْعَجُزُ جَامِعًا لِمَا فِي الصَّدْرِ وَمَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَكُونَ كَالنَّتِيجَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ وَالْخُلَاصَةِ لِلْخُطْبَةِ وَالْحَوْصَلَةِ لِلدَّرْسِ.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ: ذِكْرُهُ وَبَيَانُهُ اسْتُعِيرَ الضَّرْبُ لِلْقَوْلِ وَالذِّكْرِ تَشْبِيهًا بِوَضْعِ الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ، أَيْ أُلْقِيَ إِلَيْكُمْ مَثَلٌ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 26] .
وَبُنِيَ فِعْلُ ضُرِبَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ فَاعِلٌ بِعَكْسِ مَا فِي الْمَوَاضِعِ الْأُخْرَى الَّتِي صُرِّحَ فِيهَا بِفَاعِلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 26] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 75] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِي [سُورَةِ الزُّمَرِ: 29] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ:
76] . إِذْ أُسْنِدَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَغَيْرِهَا ضَرْبُ الْمَثَلِ إِلَى اللَّهِ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 74] . وضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ فِي [سُورَةِ يس: 78] ، إِذْ أُسْنِدَ الضَّرْبُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا نَسْجُ التَّرْكِيبِ عَلَى إِيجَازٍ صَالِحٍ لِإِفَادَةِ احْتِمَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدَّرَ الْفَاعِلُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ تَشْبِيهًا تَمْثِيلِيًّا، أَيْ أَوْضَحَ اللَّهُ تَمْثِيلًا يُوَضِّحُ حَالَ الْأَصْنَامِ فِي فَرْطِ الْعَجْزِ عَنْ إِيجَادِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ الْفَاعِلُ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُونُ الْمَثَلُ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلُ، أَيْ جَعَلُوا أَصْنَامَهُمْ مُمَاثِلَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ.

الصفحة 338