كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 17)

وَالْمَثَلُ: شَاعَ فِي تَشْبِيهِ حَالَةٍ بِحَالَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا
فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 17] ، فَالتَّشْبِيهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضمني خفيّ ينبىء عَنْهُ قَوْلُهُ: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَقَوْلُهُ لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. فَشُبِّهَتِ الْأَصْنَامُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَفِي مَكَّةَ بِالْخُصُوصِ بِعُظَمَاءَ، أَيْ عِنْدَ عَابِدِيهَا. وَشُبِّهَتْ هَيْئَتُهَا فِي الْعَجْزِ بِهَيْئَةِ نَاسٍ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ خَلْقُ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ الذُّبَابُ، بَلْهَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ دَلَّ إِسْنَادُ نَفْيِ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ عَلَى تَشْبِيهِهِمْ بِذَوِي الْإِرَادَةِ لِأَنَّ نفي الْخلق يَقْتَضِي مُحَاوَلَةِ إِيجَادِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 21] . وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الذُّبَابَ سَلَبَهُمْ شَيْئًا لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَخْذَهُ مِنْهُ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ عَدَمِ تَحَرُّكِهِمْ، فَكَمَا عَجَزَتْ عَنْ إِيجَادِ أَضْعَفِ الْخَلْقِ وَعَنْ دَفْعِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْهَا فَكَيْفَ تُوسَمُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَرُمِزَ إِلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بِذِكْرِ لَوَازِمِ أَرْكَانِ التَّشْبِيهِ مِنْ قَوْلِهِ لَنْ يَخْلُقُوا وَقَوْلِهِ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً إِلَى آخِرِهِ، لَا جَرَمَ حَصَلَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْأَصْنَامِ فِي عَجْزِهَا بِمَا دُونَ هَيْئَةِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَانَتْ تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً.
وَفَسَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْمَثَلَ هُنَا بِالصِّفَةِ الغريبة تَشْبِيها لما بِبَعْضِ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا اسْتِعْمَالَ يُعَضِّدُهُ اقْتِصَادًا مِنْهُ فِي الْغَوْصِ عَنِ الْمَعْنَى لَا ضَعْفًا عَنِ اسْتِخْرَاجِ حَقِيقَةِ الْمَثَلِ فِيهَا وَهُوَ جذيعها الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ وَلَكِنْ أَحْسَبُهُ صَادَفَ مِنْهُ وَقْتَ سُرْعَةٍ فِي التَّفْسِيرِ أَوْ شُغْلًا بِأَمْرٍ خَطِيرٍ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْأَخِيرِ.
وَفُرِّعَ عَلَى التَّهْيِئَةِ لِتَلَقِّي هَذَا الْمَثَلِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ لَهُ وَإِلْقَاءُ الشَّرَاشِرِ لِوَعْيِهِ وَتَرَقُّبِ بَيَانِ إِجْمَالِهِ تَوَخِّيًا لِلتَّفَطُّنِ لِمَا يُتْلَى بَعْدُ.

الصفحة 340