كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 18)
فَجُمْلَةُ هُوَ قائِلُها وَصْفٌ لِ كَلِمَةٌ، أَيْ هِيَ كَلِمَةٌ هَذَا وَصْفُهَا. وَإِذْ كَانَ مِنَ الْمُحَقَّقِ أَنَّهُ قَائِلُهَا لَمْ يَكُنْ فِي وَصْفِ كَلِمَةٌ بِهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى أَنَّهُ لَا وَصْفَ لِكَلِمَتِهِ غَيْرُ كَوْنِهَا صَدَرَتْ مِنْ فِي صَاحِبِهَا.
وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ لَهُ الْوَصْفُ.
وَالْكَلِمَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ
كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ
لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ»
وَكَمَا فِي قَوْلِهِمْ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَكَلِمَةُ الْإِسْلَامِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [74] .
وَالْوَرَاءُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُصِيبُ الْمَرْءَ لَا مَحَالَةَ وَيَنَالُهُ وَهُوَ لَا يَظُنُّهُ يُصِيبُهُ.
شُبِّهَ ذَلِكَ بِالَّذِي يُرِيدُ اللِّحَاقَ بِالسَّائِرِ فَهُوَ لَاحِقُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: 20] وَقَوْلِهِ ومِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية: 10] وَقَوْلِهِ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إِبْرَاهِيم: 17] . وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف:
79] .
وَقَالَ لَبِيدٌ:
أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... لُزُومُ الْعَصَا تُحْنِي عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ
وَالْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ بَيْنَ مَكَانَيْنِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَبْرُ، وَقِيلَ: هُوَ بَقَاءُ مُدَّةِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُوَ عَالَمٌ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَسْتَقِرُّ فِيهِ الْأَرْوَاحُ فَتُكَاشَفُ عَلَى مَقَرِّهَا الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الصُّوفِيَّةُ. وَقَالَ السَّيِّدُ فِي «التَّعْرِيفَاتِ» : الْبَرْزَخُ الْعَالَمُ الْمَشْهُودُ بَيْنَ عَالَمِ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ وَعَالَمِ الْأَجْسَامِ الْمَادِّيَّةِ، أَعْنِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عَالم الْمِثَال اهـ، أَيْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ.
وَمَعْنَى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أَنَّهُمْ غَيْرُ رَاجِعِينَ إِلَى الْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ. فَهِيَ إِقْنَاطٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ الَّذِي وُعِدُوهُ لَا رُجُوعَ بَعْدَهُ
الصفحة 124
351