كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 18)

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فَهُمْ قَدْ حَسِبُوا ذَلِكَ حَقِيقَةً بِلَا تَنْزِيلٍ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِنْكَارِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُرْجَعُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُرْجِعُهُمْ قَهْرًا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ يَرْجِعُونَ طَوْعًا أَو كرها.
[116]

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 116]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
تَفَرَّعَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ ظُهُورُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَلِكُ الَّذِي لَيْسَ فِي اتِّصَافِهِ بِالْمُلْكِ شَائِبَةٌ مِنْ مَعْنَى الْمُلْكِ. فَمُلْكُهُ الْمُلْكُ الْكَامِلُ فِي حَقِيقَتِهِ. الشَّامِلُ فِي نَفَاذِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَلِكُ لِلْجِنْسِ.
وَالْحَقُّ: مَا قَابَلَ الْبَاطِلَ، وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ بَاطِلٌ، أَيْ فِيهِ شَائِبَةُ الْبَاطِلِ لَا مِنْ جِهَة الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مُلْكٌ لَا جَوْرَ فِيهِ وَلَا ظُلْمٌ كَمُلْكِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُلْكٌ غَيْرُ مُسْتَكْمِلٍ حَقِيقَةَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمُلْكُ عَدَا اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَالِكٌ مِنْ جِهَةٍ وَمَمْلُوكٌ مِنْ جِهَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْصٍ وَاحْتِيَاجٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنْ تَسْدِيدِ نَقْصِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَمِنَ اسْتِعَانَةٍ بِالْغَيْرِ لِجَبْرِ احْتِيَاجِهِ فَذَلِكَ مُلْكٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ادِّعَاءُ مُلْكٍ غَيْرِ تَامّ.
وَجُمْلَة: فَتَعالَى يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا قُصِدَ مِنْهُ التَّذْكِيرُ وَالِاسْتِنْتَاجُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَعْنَى تَعَالِيهِ وَأَنْ تَكُونَ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ بِالْعُلُوِّ.
وَالتَّعَالِي: مُبَالَغَةٌ فِي الْعُلُوِّ. وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ، وَبِأَنَّهُ مَالِكُ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْنِي الْعَرْشَ وَذَلِكَ دَلِيلُ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ.

الصفحة 135