كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 18)

وَذَكَرَتِ الْخُشُوعَ وَهُوَ تَمَامُ الطَّاعَةِ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَعْمَلُ الطَّاعَةَ لِلْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ غَيْرَ مُسْتَحْضِرٍ خُشُوعًا لِرَبِّهِ الَّذِي كَلَّفَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِذَا تَخَلَّقَ الْمُؤْمِنُ بِالْخُشُوعِ اشْتَدَّتْ مُرَاقَبَتُهُ رَبَّهُ فَامْتَثَلَ وَاجْتَنَبَ. فَهَذَانِ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ.
وَذَكَرَتِ الْإِعْرَاضَ عَنِ اللَّغْوِ، وَاللَّغْوُ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ الْمُتَعَلِّقِ بِاللِّسَانِ الَّذِي يَعْسُرُ إِمْسَاكُهُ فَإِذَا تَخَلَّقَ الْمُؤْمِنُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ فَقَدْ سَهُلَ عَلَيْهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ. وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ خُلُقٌ لِلسَّمْعِ أَيْضًا كَمَا عَلِمْتَ.
وَذَكَرَتْ إِعْطَاءَ الصَّدَقَاتِ وَفِي ذَلِكَ مُقَاوَمَةُ دَاءِ الشُّحِّ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: 16] .
وَذَكَرَتْ حِفْظَ الْفَرْجِ، وَفِي ذَلِكَ خُلُقُ مُقَاوَمَةِ اطِّرَادِ الشَّهْوَةِ الْغَرِيزِيَّةِ بِتَعْدِيلِهَا وَضَبْطِهَا وَالتَّرَفُّعِ بِهَا عَنْ حَضِيضِ مُشَابَهَةِ الْبَهَائِمِ فَمَنْ تَخَلَّقَ بِذَلِكَ فَقَدْ صَارَ كَبْحُ الشَّهْوَةِ مَلَكَةً لَهُ وَخُلُقًا.
وَذَكَرَتْ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ وَهُوَ مَظْهَرٌ لِلْإِنْصَافِ وَإِعْطَاءِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ وَمُغَالَبَةِ شَهْوَةِ النَّفْسِ لِأَمْتِعَةِ الدُّنْيَا.
وَذَكَرَتِ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَهُوَ مَظْهَرٌ لِخُلُقِ الْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ بِأَنْ يَبْذُلَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْوَفَاءِ.
وَذَكَرَتِ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَهُوَ التخلق بالعناية بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الْحُدُودِ وَالْمَوَاقِيتِ وَذَلِكَ يَجْعَلُ انْتِظَامَ أَمْرِ الْحَيَاتَيْنِ مَلَكَةً وَخُلُقًا رَاسِخًا.
وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْخِصَالَ وَجَدْتَهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَا مِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ إِهْمَالُهُ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالْخُشُوعِ وَتَرْكِ اللَّغْوِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَحِفْظِ الْعَهْدِ، وَإِلَى بَذْلِ مَا مِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ إِمْسَاكُهُ مِثْلَ الصَّدَقَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
فَكَانَ فِي مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَعْمَالُ مَلَكَتَيِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَهُمَا مَنْبَعُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ لِمَنْ تَتَبَّعَهَا.

الصفحة 19