كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 18)

إِلَيْهِ النُّطْفَةُ هُوَ كَائِنٌ لَهُ قُوَّةُ امْتِصَاصِ الْقُوَّةِ مِنْ دَمِ الْأُمِّ بِسَبَبِ الْتِصَاقِهِ بِعُرُوقٍ فِي الرَّحِمِ تَدْفَعُ إِلَيْهِ قُوَّةَ الدَّمِ، وَالْعَلَقَةُ:
قِطْعَةٌ مِنْ دَمٍ عَاقِدٍ.
وَالْمُضْغَةُ: الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ اللَّحْمِ مِقْدَارُ اللُّقْمَةِ الَّتِي تُمْضَغُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ كَيْفِيَّةُ تَخَلُّقِ الْجَنِينِ.
وَعَطَفَ جَعْلَ الْعَلَقَةِ مُضْغَةً بِالْفَاءِ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الْعَلَقَةِ إِلَى الْمُضْغَةِ يُشْبِهُ تَعْقِيبَ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ إِذِ اللَّحْمُ وَالدَّمُ الْجَامِدُ مُتَقَارِبَانِ فَتَطَوُّرُهُمَا قَرِيبٌ وَإِنْ كَانَ مُكْثُ كُلِّ طَوْرٍ
مُدَّةً طَوِيلَةً.
وَخَلْقُ الْمُضْغَةِ عِظَامًا هُوَ تَكْوِينُ الْعِظَامِ فِي دَاخِلِ تِلْكَ الْمُضْغَةِ وَذَلِكَ ابْتِدَاءُ تَكْوِينِ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ عَظْمٍ وَلَحْمٍ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُرِّرَ فِي عَطْفِ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ بِالْفَاءِ.
فَمَعْنَى فَكَسَوْنَا أَنَّ اللَّحْمَ كَانَ كَالْكِسْوَةِ لِلْعِظَامِ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِظَامَ بَقِيَتْ حِينًا غَيْرَ مَكْسُوَّةٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»
الْحَدِيثُ، فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَقَدْ تَهَيَّأَ لِلْحَيَاةِ وَالنَّمَاءِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ لِأَنَّ الْخَلْقَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ كَانَ دُونَ حَيَاةٍ ثُمَّ نَشَأَ فِيهِ خَلْقُ الْحَيَاةِ وَهِيَ حَالَةٌ أُخْرَى طَرَأَتْ عَلَيْهِ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِنْشَاءِ. وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى التَّفَاوُتِ الرُّتْبِيِّ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ عَطَفَ هَذَا الْإِنْشَاءَ بِ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى أَصْلِ التَّرْتِيبِ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بِ (ثُمَّ) .
وَهَذِهِ الْأَطْوَارُ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لَهَا الْآيَةُ سَبْعَةُ أَطْوَارٍ فَإِذَا تَمَّتْ فَقَدْ صَارَ الْمُتَخَلِّقُ حَيًّا،
وَفِي «شَرْحِ الْمُوَطَّأِ» : «تَنَاجَى رَجُلَانِ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ حَاضِرٌ فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ: مَا هَذِهِ الْمُنَاجَاةُ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْيَهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَزْلَ هُوَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى

الصفحة 24