كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 18)

وَعَطْفُ مَقَالَةِ نُوحٍ عَلَى جُمْلَةِ إِرْسَالِهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِإِفَادَةِ أَدَائِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ بِالْفَوْرِ مِنْ أَمْرِهِ وَهُوَ شَأْنُ الِامْتِثَالِ.
وَأَمْرُهُ قَوْمَهُ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ بِأَنْ أَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ (وَدٍّ، وَسُوَاعَ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ) حَتَّى أَهْمَلُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَسُوهَا.
وَكَذَلِكَ حُكِيَتْ دَعْوَةُ نُوحٍ قَوْمَهُ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ بِصِيغَةِ أَمْرٍ بِأَصْلِ عِبَادَةِ اللَّهِ دُونَ الْأَمْرِ بِقَصْرِ عِبَادَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ وُجُودَ اللَّهِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَهُمْ مُثْبِتُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ، فَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَهُوَ تَعْلِيلٌ أَخَصُّ مِنَ الْمُعَلَّلِ، وَهُوَ أَوْقَعُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ لِاقْتِضَائِهِ مَعْنَى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ. فَالْمَعْنَى: اعْبُدُوا اللَّهَ الَّذِي تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُ وَهُوَ إِلَهُكُمْ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ الْعِبَادَةَ فَلَا تَعْبُدُوا أَصْنَامَكُمْ مَعَهُ.
وغَيْرُهُ نَعْتٌ لِ إِلهٍ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى اعْتِبَارِ مَحَلِّ الْمَنْعُوتِ بِ (غَيْرِ) لِأَنَّ الْمَنْعُوتَ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ جَرٍّ زَائِدٍ، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِالْجَرِّ عَلَى اعْتِبَارِ اللَّفْظِ الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ الزَّائِدِ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى عَدَمِ اتِّقَائِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ خُولِفَتْ فِي حِكَايَةِ جَوَابِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَهِيَ تَرْكُ الْعَطْفِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] . فَعُطِفَ هُنَا جَوَابُ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِالْفَاءِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُوَجِّهُوا الْكَلَامَ إِلَيْهِ بَلْ تَرَكُوهُ وَأَقْبَلُوا عَلَى قَوْمِهِمْ يُفَنِّدُونَ لَهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ.
وَالثَّانِي: لِيُفَادَ أَنهم أَسْرعُوا بتكذيبه وَتَزْيِيفِ دَعْوَتِهِ قَبْلَ النَّظَرِ. وَوَصْفُ الْمَلَأِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَهُمْ

الصفحة 41