كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 18)

(41)
تَقْتَضِي الْفَاءُ تَعْجِيلَ إِجَابَةِ دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ.
وَالْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِهْلَاكِ.
وَالصَّيْحَةُ: صَوْتُ الصاعقة، وَهَذَا يرجع أَوْ يُعَيِّنُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْقَرْنُ هُمْ ثَمُودُ قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] وَقَالَ فِي شَأْنِهِمْ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [83] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ.
وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ سَبَبُ الْأَخْذِ أَوْ مُقَارَنَةُ سَبَبِهِ فَإِنَّهَا تَحْصُلُ مِنْ تَمَزُّقِ كُرَةِ الْهَوَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الصَّاعِقَةِ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَخَذَتْهُمْ أَخْذًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ، أَيْ لَا اعْتِدَاءَ فِيهِ
عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ بِظُلْمِهِمْ.
وَالْغُثَاءُ: مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنَ الْأَعْوَادِ الْيَابِسَةِ وَالْوَرَقِ. وَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِلْهَيْئَةِ فَهُوَ تَشْبِيهُ حَالَةٍ بِحَالَةٍ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ كَالْغُثَاءِ فِي الْبِلَى وَالتَّكَدُّسِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَهَلَكُوا هَلْكَةً وَاحِدَةً.
وَفُرِّعَ عَلَى حِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمْ دُعَاءَ شَتْمٍ وَتَحْقِيرٍ بِأَنْ يُبْعَدُوا تَحْقِيرًا لَهُمْ وَكَرَاهِيَةً، وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الدُّعَاءِ لِأَن هَؤُلَاءِ قد بُعِدُوا بِالْهَلَاكِ.
وانتصب فَبُعْداً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ مِثْلَ: تَبًّا وَسُحْقًا، أَيْ أَتَبَّهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ.
وَعَكْسُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْعَرَبِ لَا تَبْعَدْ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) أَيْ لَا تُفْقَدْ. قَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ:
يَقُولُونَ لَا تَبْعَدُ وَهُمْ يَدْفِنُونِي ... وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلَّا مَكَانِيَا
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الْكَافِرُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَاخْتِيرَ هَذَا الْوَصْفُ هُنَا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ وَظَلَمُوا هُودًا لِأَنَّهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ إِذْ قَالُوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الْمُؤْمِنُونَ: 38] .
وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَشَمَلَهُمْ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.

الصفحة 59