كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 18)
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] أَنَّ إِجْرَاءَ وَصْفٍ عَلَى لَفْظِ (قَوْمٍ) أَوِ الْإِخْبَارَ بِلَفْظِ (قَوْمٍ) مَتْبُوعٍ بِاسْمِ فَاعِلٍ إِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهُ تَمَكُّنُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِلَفْظِ (قَوْمٍ) أَوْ تَمَكُّنُهُ مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ. فَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ عَلَى تَلَقِّي دَعْوَةِ مُوسَى وَآيَاتِهِ وَحُجَّتِهِ إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ سَجِيَّتِهِمْ مِنَ الْكِبْرِ وَتَطَبُّعِهِمْ. فَالْعُلُوُّ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ. وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [4] .
وَبُيِّنَ ذَلِكَ بِالتَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِهِ فَاسْتَكْبَرُوا، أَيِ اسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ عَنِ اتِّبَاعِ مُوسَى وَهَارُونَ، فَأَفْصَحُوا عَنْ سَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ. وَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَلَكِنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَلَأِ لِبَعْضٍ، وَلَمَّا كَانُوا قد تراوضوا عَلَيْهِ نُسِبَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَكَانَ مُصْغِيًا لِرَأْيِهِمْ وَمَشُورَتِهِمْ وَكَانَ لَهُ قَوْلٌ
آخَرُ حُكِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: 38] فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مَعْدُودًا فِي دَرَجَةِ الْآلِهَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَشَرًا فِي الصُّورَةِ لَكِنَّهُ اكْتَسَبَ الْإِلَهِيَّةَ بِأَنَّهُ ابْنُ الْآلِهَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُؤْمِنُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِمَا وَهُمَا مِثْلُنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ وَلَيْسَا بِأَهْلٍ لِأَنْ يَكُونَا ابْنَيْنِ لِلْآلِهَةِ لِأَنَّهُمَا جَاءَا بِتَكْذِيبِ إِلَهِيَّةِ الْآلِهَةِ، فَكَانَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ لِضَلَالِهِمْ يَتَطَلَّبُونَ لِصِحَّةِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُبَايِنًا لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا يَتَخَيَّلُونَ آلِهَتَهُمْ أَجْنَاسًا غَرِيبَةً مِثْلَ جَسَدِ آدَمِيٍّ وَرَأْسِ بَقَرَةٍ أَوْ رَأْسِ طَائِرٍ أَوْ رَأْسِ ابْنِ آوَى أَوْ جَسَدِ أَسَدٍ وَرَأْسِ آدَمِيٍّ، وَلَا يُقِيمُونَ وَزْنًا لِتَبَايُنِ مَرَاتِبِ النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ وَهِيَ أَجْدَرُ بِظُهُورِ التَّفَاوُتِ لِأَنَّهَا قَرَارَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ سَبَب ضلال أَكْثَرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا رُسُلَهُمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِبَشَرَيْنِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ نُؤْمِنُ. يُقَالُ لِلَّذِي يُصَدِّقُ الْمُخْبِرَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ: آمَنَ لَهُ، فَيُعَدَّى فِعْلُ (آمَنَ) بِاللَّامِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ
الصفحة 64
351