كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 18)

صَدَّقَ بِالْخَبَرِ لِأَجْلِ الْمُخْبِرِ، أَيْ لِأَجْلِ ثِقَتِهِ فِي نَفْسِهِ. فَأَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ لَامُ الْعِلَّةِ وَالْأَجْلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدُّخان: 21] . وَأَمَّا تَعْدِيَةُ فِعْلِ الْإِيمَانِ بِالْبَاءِ فَإِنَّهَا إِذَا عُلِّقَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَبَرِ تَقُولُ: آمَنْتُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. وَبِهَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ وَقَوْلِكَ: آمَنْتُ لِمُحَمَّدٍ. فَمَعْنَى الْأَوَّلِ: أَنَّكَ صَدَّقْتَ شَيْئًا.
وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ: آمَنْتُ لِلَّهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ. وَتَقُولُ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ وَآمَنْتُ لِمُحَمَّدٍ.
وَمَعْنَى الْأَوَّلِ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِهِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّكَ صَدَّقْتَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ.
ومِثْلِنا وَصْفٌ لِبَشَرَيْنِ وَهُوَ مِمَّا يَصِحُّ الْتِزَامُ إِفْرَادِهِ وَتَذْكِيرِهِ دُونَ نَظَرٍ إِلَى مُخَالَفَةِ صِيغَةٍ مَوْصُوفَهٍ كَمَا هُنَا. وَيَصِحُّ مُطَابَقَتُهُ لِمَوْصُوفِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الْأَعْرَاف: 194] .
وَهَذَا طَعْنٌ فِي رِسَالَتِهِمَا مِنْ جَانِبِ حَالِهِمَا الذَّاتِيِّ ثُمَّ أَعَقَبُوهُ بِطَعْنٍ مِنْ جِهَةِ مَنْشَئِهِمَا وَقَبِيلِهِمَا فَقَالُوا: وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ، أَيْ وَهُمْ مِنْ فَرِيقٍ هُمْ عِبَادٌ لَنَا وَأَحَطُّ مِنَّا فَكَيْفَ يَسُودَانِنَا.
وَقَوْلُهُ: عابِدُونَ جَمْعُ عَابِدٍ، أَيْ مُطِيعٌ خَاضِعٌ. وَقَدْ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَوَلًا لِلْقِبْطِ وَخَدَمًا لَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء:
22] .
وَتَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمُ التَّصْمِيمُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمَا الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ فَكَذَّبُوهُما، أَيْ أُرْسِيَ أَمْرُهُمْ عَلَى أَنْ كَذَّبُوهُمَا، ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ أَنْ كَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ إِذْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْغَرَقِ، أَيْ فَانْتَظَمُوا فِي سِلْكِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا. وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ:
فَأُهْلِكُوا، كَمَا مَرَّ بِنَا غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالتَّعْقِيبُ هُنَا تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ لِأَنَّ الْإِغْرَاقَ لَمَّا نَشَأَ عَنِ التَّكْذِيبِ فَالتَّكْذِيبُ مُسْتَمِرٌّ إِلَى حِينِ الْإِهْلَاكِ.
وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ قُرَيْشٍ عَلَى تكذيبهم رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمُهْلَكِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِهْلَاكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ يكذبُون رسله.

الصفحة 65