كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 18)

وَعُطِفَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ عَلَى الْأَمْرِ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ هِمَّةَ الرُّسُلِ إِنَّمَا تَنْصَرِفُ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْمَائِدَة: 93] المُرَاد بِهِ مَا تَنَاوَلُوهُ مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَحْرِيضٌ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بِالْجَزَاءِ عَنْهَا وَأَنَّهُ لَا يَضِيعُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التحريض.
[52]

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 52]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [الْمُؤْمِنُونَ:
51] إِلَخْ، فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا قِيلَ لِلرُّسُلِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْنَا لَهُمْ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَصَصِ الْإِرْسَالِ الْمَبْدُوءَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 23] لِأَنَّ تِلْكَ الْقَصَصَ إِنَّمَا قُصَّتْ عَلَيْهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهَا إِلَى أَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الرِّسَالَةِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سِيَاقُهَا كَسِيَاقِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [92] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَةَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. فَتِلْكَ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهَا بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) . فَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلرُّسُلِ وَأَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلْمَقْصُودِينَ بِالنِّذَارَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَفَتْحُ الْهَمْزَةِ بِتَقْدِيرِ لَامِ كَيْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُونِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى وُجُودَ الْفَاءِ فِيهِ مَانِعًا مِنْ تَقْدِيمِ مَعْمُولِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فَاتَّقُونِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ الْمُقْتَرِنِ بِالْفَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فِي سُورَة النَّحْل

الصفحة 69