كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 18)
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [88] ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [73- 90] .
وَ (بَلْ) إِضْرَابٌ عَنِ الْمَظْنُونِ لَا عَلَى الظَّنِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ لَسْنَا نُسَارِعُ لَهُمْ بِالْخَيْرَاتِ كَمَا ظَنُّوا بَلْ لَا يَشْعُرُونَ بِحِكْمَةِ ذَلِكَ الْإِمْدَادِ وَأَنَّهَا لِاسْتِدْرَاجِهِمْ وَفَضْحِهِمْ بِإِقَامَةِ الْحجَّة عَلَيْهِم.
[57- 61]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 57 إِلَى 61]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
هَذَا الْكَلَامُ مُقَابِلُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْغَمْرَةُ مِنْ قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: 54] مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَنِ التَّصْدِيقِ بِآيَاتِهِ، وَمِنْ إِشْرَاكِهِمْ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، وَمِنْ شُحِّهِمْ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَإِنْفَاقِ مَالِهِمْ فِي اللَّذَّاتِ، وَمِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ. كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا شَمِلَتْهُ الْغَمْرَةُ فَجِيءَ فِي مُقَابِلِهَا بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [الْمُؤْمِنُونَ: 63] .
فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّفْصِيلِ لِإِجْمَالِ الْغَمْرَةِ مَعَ إِفَادَةِ الْمُقَابَلَةِ بِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَاخْتِيرَ أَنْ يَكُونَ التَّفْصِيلُ بِذِكْرِ الْمُقَابِلِ لِحُسْنِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَقُبْحِ أَضْدَادِهَا تَنْزِيهًا لِلذِّكْرِ عَنْ تَعْدَادِ رَذَائِلِهِمْ، فَحَصَلَ بِهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَطِبَاقٌ مِنْ أَلْطَفِ الْبَدِيعِ، وَصَوْنٌ لِلْفَصَاحَةِ مِنْ كَرَاهَةِ الْوَصْفِ الشَّنِيعِ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولَاتِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيُسَابِقُونَ إِلَيْهَا وَتَكْرِيرُ
الصفحة 76
351