كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

مُوسَى عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْضَمَّ دَاعِي غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ إِلَى دَاعِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ الْبَاعِثِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَوْقَعُ لِكَلَامِهِ فِي نُفُوسِهِمْ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمُ اشْتُهِرُوا بِالظُّلْمِ.
ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ وَصْفِهِمُ الذَّاتِيِّ بِطَرِيقَةِ الْبَيَانِ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ:
قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَفِي تَكْرِيرِ كَلِمَةِ قَوْمَ مَوْقِعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ فَلَمْ يَقُلْ: ائْتِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ الظَّالِمِينَ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدَيٍّ لَا أَبَا لَكُمْ ... لَا يلفينّكم فِي سوأة عُمَرُ
وَالظُّلْمُ يَعُمُّ أَنْوَاعَهُ، فَمِنْهَا ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَةِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَمِنْهَا ظُلْمُهُمُ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ إِذِ اسْتَعْبَدُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاضْطَهَدُوهُمْ، وَتَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ مِرَارًا فِي ضِدِّ الْعَدْلِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ فِي الْبَقَرَةِ [114] ، وَبِمَعْنَى الشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ فِي الْأَنْعَامِ [82] .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ عَدَلَ هُنَا عَنْ ذِكْرِ مَا ابْتُدِئَ بِهِ نِدَاءُ مُوسَى مِمَّا هُوَ فِي سُورَةِ طه [12- 23] بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا هُوَ شَرْحُ دَعْوَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَإِعْرَاضُهُمْ لِلِاتِّعَاظِ بِعَاقِبَتِهِمْ. وَأَمَّا مَقَامُ مَا فِي سُورَةِ طه فَلِبَيَانِ كَرَامَةِ مُوسَى عِنْدَ رَبِّهِ وَرِسَالَتِهِ مَعًا فَكَانَ مَقَامَ إِطْنَابٍ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْإِتْيَانُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ ذَهَابُهُ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا إِيجَازٌ يبيّنه قَوْله: أْتِيا
فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الشُّعَرَاء: 16] إِلَى آخِرِهِ.
وَجُمْلَةُ: أَلا يَتَّقُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِتْيَانِ إِلَيْهِمْ لِدَعْوَتِهِمْ وَوَصَفَهُمْ بِالظَّالِمِينَ كَانَ الْكَلَامُ مُثِيرًا لِسُؤَالٍ فِي نَفْسِ مُوسَى عَنْ مَدَى ظُلْمِهِمْ فَجِيءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَوَغُّلِهِمْ فِي الظُّلْمِ وَدَوَامِهِمْ عَلَيْهِ تَقْوِيَةً لِلْبَاعِثِ لِمُوسَى عَلَى بُلُوغِ الْغَايَةِ فِي الدَّعْوَةِ وَتَهْيِئَةً لِتَلَقِّيهِ تكذيبهم بِدُونِ مفاجأة، فَيَكُونُ أَلا مِنْ قَوْلِهِ: أَلا يَتَّقُونَ مُرَكَّبًا مِنْ حَرْفَيْنِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَ (لَا) النَّافِيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ تَقْوَاهُمْ، وَتَعْجِيبِ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى أَحْوَالِهِمْ إِذْ كَانَ قَدْ نَشَأَ فِيهِمْ وَقَدْ عَلِمَ مَظَالِمَهُمْ وَأَعْظَمُهَا الْإِشْرَاكُ وَقَتْلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ....

الصفحة 104