كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

إِذْ لَا مَعْنَى لِلْجَزَاءِ هَاهُنَا اه. فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِ فَعَلْتُها مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا لِدَلَالَةِ الْعَامِلِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَعَلْتُهَا زَمَنًا فَعَلْتُهَا، فَتَذْكِيرِي بِهَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ لَا جَدْوَى لَهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ فِي إِذاً فِي الْآيَةِ هُوَ مُخْتَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ (¬1) وَالرَّضِيِّ فِي «شَرْحِ الْحَاجِبِيَّةِ» وَالدَّمَامِينِيِّ فِي «الْمَزْجِ عَلَى الْمُغْنِي» ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَزْوِينِيِّ فِي «الْكَشْفِ عَلَى الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يَخْتَارُهُ.
وَمَعْنَى الْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَعَلْتُها إِذاً أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشُّعَرَاء: 19] قصد بِهِ إِفْحَامُ مُوسَى وَتَهْدِيدُهُ، فَجَعَلَ مُوسَى الِاعْتِرَافَ بِالْفَعْلَةِ جَزَاءً لِذَلِكَ التَّهْدِيدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ لَا أَتَهَيَّبُ مَا أَرَدْتَ.
وَجَعَلَ مُوسَى نَفْسَهُ مِنَ الضَّالِّينَ إِنْ كَانَ مُرَادُ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَتِ الْآيَةُ مَعْنَاهُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورَ لِلضَّلَالِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ ضَلَالُ الْفَسَادِ فَيَكُونُ مُرَادُهُ: أَنَّ سَوْرَةَ الْغَضَبِ أَغْفَلَتْهُ عَنْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَرِيعَةٌ (فَإِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ شَرَائِعُ الْبَشَرِ وَتَوَارَثُوهُ فِي الْفِتَرِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [الْقَصَص: 16] ) وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مَعْنَى ضَلَالِ الطَّرِيقِ، أَيْ كُنْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالْحَقِّ لِعَدَمِ وُجُودِ شَرِيعَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْجَهَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضُّحَى: 7] فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَجَوَابُ مُوسَى فِيهِ اعْتِرَافٌ بِظَاهِرِ التَّقْرِيرِ وَإِبْطَالٌ لِمَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنْ جَعْلِهِ حُجَّةً لِتَكْذِيبِهِ بِرِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [الشُّعَرَاء: 19] بِقَوْلِهِ: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ إِبْطَالًا لِأَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا، وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا أَهَمَّ بِالْإِبْطَالِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ فَكَانَ فِرَارِي قَدْ عَقِبَهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيَّ فَأَصْلَحَ حَالِي وَعَلَّمَنِي وَهَدَانِي وَأَرْسَلَنِي. فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُوسَى مُجَرَّدَ إِطْنَابٍ بَلْ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ ابْنُ يَوْمِهِ لَا ابْنُ أَمْسِهِ، وَالْأَحْوَالُ بِأَوَاخِرِهَا فَلَا عَجَبَ فِيمَا قَصَدْتُ فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ.
¬_________
(¬1) إِذْ قَالَ: «وَقَوله: إِذاً صلَة فِي الْكَلَام وَكَأَنَّهَا بِمَعْنى حِينَئِذٍ» يُرِيد أَن (إِذن) تَأْكِيد دَالَّة على الزَّمَان وَقد اسْتُفِيدَ الزَّمَان من قَوْله: فَعَلْتُها أَي يَوْمئِذٍ. [.....]

الصفحة 114