كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 69 إِلَى 77]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77)
عُقِّبَتْ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَومه بِقصَّة رِسَالَة إِبْرَاهِيمَ. وَقُدِّمَتْ هُنَا عَلَى قِصَّةِ نُوحٍ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ فِي تَرْتِيبِ قِصَصِهِمْ فِي الْقُرْآنِ لِشِدَّةِ الشَّبَهِ بَيْنَ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ. وَفِي تَمَسُّكِهِمْ بِضَلَالِ آبَائِهِمْ وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ دَعَاهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْحِطَاطِ الْأَصْنَامِ عَنْ مَرْتَبَةِ اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ لِيَكُونَ إِيمَانُ النَّاسِ مُسْتَنِدًا لِدَلِيلِ الْفِطْرَةِ، وَفِي أَنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا مِثْلُ مَا سُلِّطَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَعَلَى عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَهْلِ مَدْيَنَ فَأَشْبَهُوا قُرَيْشًا فِي إِمْهَالِهِمْ.
فَرِسَالَةُ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا قَائِمَتَانِ عَلَى دِعَامَةِ الْفِطْرَةِ فِي الْعَقْلِ وَالْعَمَلِ، أَيْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالتَّشْرِيعِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ هَذِهِ الْفِطْرَةَ لِيُضَيِّعَهَا وَيُهْمِلَهَا بَلْ لِيُقِيمَهَا وَيُعْمِلَهَا. فَلَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِلْمُشْرِكِينَ لِإِبْطَالِ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْآيَاتُ كَمَا أُوتِيَ مُوسَى، فَإِنَّ آيَاتِ مُوسَى وَهِيَ أَكْثَرُ آيَاتِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ لَمْ تَقْضِ شَيْئًا فِي إِيمَانِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لَمَّا كَانَ خُلُقُهُمُ الْمُكَابَرَةَ وَالْعِنَادَ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ الْمُمَاثِلَةِ لِدَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّدَاءِ عَلَى إِعْمَالِ دَلِيلِ النَّظَرِ.
وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3] .
وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله: مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ فِي الْبَقَرَةِ [102] .
ونَبَأَ إِبْراهِيمَ: قِصَّتُهُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، أَيِ اقْرَأْ عَلَيْهِمْ مَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ الْآنَ مِنْ نَبَأِ إِبْرَاهِيمَ. وَإِنَّمَا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلَاوَتِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَضَمِّنَ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ آيَةٌ مُعْجِزَةٌ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ

الصفحة 137