كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

وَيَوْمُ الدِّينِ: هُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَهَذَا الْكَلَامُ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ تَعْرِيضًا بِالدُّعَاءِ. وَقَدْ أَشَارَ فِي هَذِهِ النُّعُوتِ إِلَى مَا هُوَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِي الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَنْ أَحَدٍ قَصْدًا لِاقْتِصَاصِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ إِنْ رَامُوا الِاهْتِدَاءَ.
وَفِي تِلْكَ النُّعُوتِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مُهَيِّئَاتٌ لِلْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ فَقَدْ جَمَعَتْ كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ دَلَالَتِهَا عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ أَطْوَارِ الْخَلْقِ الْجُسْمَانِيِّ دَلَالَةً أُخْرَى عَلَى جَمِيعِ أُصُولِ النِّعَمِ مِنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ إِلَى الْخَلْقِ الثَّانِي وَهُوَ الْبَعْثُ، فَذَكَرَ خَلْقَ الْجَسَدِ وَخَلْقَ الْعَقْلِ وَإِعْطَاءَ مَا بِهِ بَقَاءُ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ الْغِذَاءُ وَالْمَاءُ، وَمَا يَعْتَرِي الْمَرْءَ مِنَ اخْتِلَالِ الْمِزَاجِ وَشِفَائِهِ، وَذَكَرَ الْمَوْتَ الَّذِي هُوَ خَاتِمَةُ الْحَيَاةِ الْأُولَى، وَأَعْقَبَهُ بِذِكْرِ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ حَالَةٌ لَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا نِعْمَةً إِلَّا بِغَوْصِ فِكْرٍ وَلَكِنَّ وَرَاءَهُ حَيَاةٌ هِيَ نِعْمَةٌ لَا مَحَالَةَ لِمَنْ شَاءَ أَنْ تَكُونَ لَهُ نِعْمَةٌ.
وَحُذِفَتْ يَاءَاتُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ يَهْدِينِ، ويَسْقِينِ، ويَشْفِينِ، ويُحْيِينِ لِأَجْلِ التَّخْفِيفِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ لِأَنَّهَا يُوقَفُ عَلَيْهَا، وَفَوَاصِلُ هَذِهِ السُّورَةِ أَكْثَرُهَا بِالنُّونِ السَّاكِنَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: 14] فِي قِصَّةِ مُوسَى الْمُتَقَدّمَة.
[83- 89]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 83 إِلَى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
لَمَّا كَانَ آخِرُ مَقَالِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ مُتَضَمِّنًا دُعَاءً بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ تَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى الدُّعَاءِ بِمَا فِيهِ جَمْعُ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ بِالرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّ الْحُجَّةَ الَّتِي قَامَ بِهَا فِي قَوْمِهِ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الْأَنْعَام: 83] فَكَانَ حِينَئِذٍ فِي حَالِ قُرْبٍ مِنَ اللَّهِ. وَجَهَرَ بِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ عَقِبَ الِانْتِهَاءِ مِنْ أَقْدَسِ وَاجِبٍ وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ، فَهُوَ

الصفحة 144