كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

ظَنِّهِمْ ذَلِكَ، وَسَلَّطَ الْإِنْكَارَ عَلَى فِعْلِ التَّرْكِ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ لَا يَكُونُ. فَكَانَ إِنْكَارُ حُصُولِهِ مُسْتَلْزِمًا إِنْكَارَ اعْتِقَادِهِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء: 142] لِأَنَّ الْإِنْكَارَ
عَلَيْهِمْ دَوَامَ حَالِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُفَارِقُونَ هَذِهِ الْحَيَاةَ وَصَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ.
وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ لِاسْتِبْقَاءِ تِلْكَ النِّعَمِ بِأَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْحِكَمِ» «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا» .
وهاهُنا إِشَارَةٌ إِلَى بِلَادِهِمْ، أَيْ فِي جَمِيعِ مَا تُشَاهِدُونَهُ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وآمِنِينَ حَال مبينَة لِبَعْضِ مَا أجمله قَوْله: فِي مَا هاهُنا. وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا لَا يُشَارُ إِلَيْهَا وَهِيَ نِعْمَةُ الْأَمْنِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَلَا يُتَذَوَّقُ طَعْمُ النِّعَمِ الْأُخْرَى إِلَّا بِهَا.
وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّقَ بِ آمِنِينَ لِيَكُونَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا لِإِجْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيِ اجْتَمَعَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَرَفَاهِيَةُ الْعَيْشِ. وَالْجَنَّاتُ: الْحَوَائِطُ الَّتِي تُشَجَّرُ بِالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ.
وَالطَّلْعُ: وِعَاءٌ يَطْلُعُ مِنَ النَّخْلِ فِيهِ ثَمَرُ النَّخْلَةِ فِي أَوَّلِ أَطْوَارِهِ يَخْرُجُ كَنَصْلِ السَّيْفِ فِي بَاطِنِهِ شَمَارِيخُ الْقِنْوِ، وَيُسَمَّى هَذَا الطَّلْعُ الْكِمُّ (بِكَسْرِ الْكَافِ) وَبَعْدَ خُرُوجِهِ بِأَيَّامٍ يَنْفَلِقُ ذَلِكَ الْوِعَاءُ عَنِ الشَّمَارِيخِ وَهِيَ الْأَغْصَانُ الَّتِي فِيهَا الثَّمَرُ كَحَبٍّ صَغِيرٍ، ثُمَّ يَغْلُظُ وَيَصِيرُ بُسْرًا ثُمَّ تَمْرًا.
وَالْهَضِيمُ: بِمَعْنَى الْمَهْضُومِ، وَأَصْلُ الْهَضْمِ شَدْخُ الشَّيْءِ حَتَّى يَلِينَ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلدَّقِيقِ الضَّامِرِ، كَمَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ هَضِيمُ الْكَشْحِ. وَتِلْكَ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ تَمْرًا جَيِّدًا.
وَالنَّخْلُ الَّذِي يُثْمِرُ تَمْرًا جَيِّدًا يُقَالُ لَهُ: النَّخْلُ الْإِنَاثُ وَضِدَّهُ فَحَاحِيلُ، وَهِيَ جُمَعُ فُحَّالٍ (بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ) أَيْ ذَكَرٌ، وَطَلْعُهُ غَلِيظٌ وَتَمْرُهُ كَذَلِكَ.
وَخُصَّ النَّخْلُ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا تَشْمَلُهُ الْجَنَّاتُ لِقَصْدِ بَيَانِ جَوْدَتِهِ بِأَنَّ طَلْعَهُ هَضِيمٌ.

الصفحة 175