كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

وتَنْحِتُونَ عَطْفٌ عَلَى آمِنِينَ، أَيْ وَنَاحِتِينَ، عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ فِي نَحْتِهِمْ بُيُوتًا مِنَ الْجِبَالِ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وفرهين صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْفَاءِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَرَاهَةِ وَهِيَ الْحَذَقُ وَالْكَيَاسَةُ، أَيْ عَارِفِينَ حَذِقِينَ بِنَحْتِ الْبُيُوتِ مِنَ الْجِبَالِ بِحَيْثُ تَصِيرُ بِالنَّحْتِ كَأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ فارِهِينَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ.
وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ مُفَرَّعٌ مِثْلُ نَظِيرِهِ فِي قِصَّةِ عَادٍ.
وَالْمُرَادُ بِ الْمُسْرِفِينَ أَيِمَّةُ الْقَوْمِ وَكُبَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ يُغْرُونَهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَيُبْقُونَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ اسْتِغْلَالًا لِجَهْلِهِمْ وَلِيُسَخِّرُوهُمْ لِفَائِدَتِهِمْ. وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ فِي شَيْءٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِسْرَافُ الْمَذْمُومُ كُلُّهُ فِي الْمَالِ وَفِي الْكُفْرِ، وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَالْإِسْرَافُ مَنُوطٌ بِالْفَسَادِ.
وَعَطْفُ وَلا يُصْلِحُونَ عَلَى جُمْلَةِ: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ تَأْكِيدٌ لِوُقُوعِ الشَّيْءِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: 79] وَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهْنَيِّ:
النَّسَبُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ يُفِيدُ أَنَّ فَسَادَهُمْ لَا يَشُوبُهُ صَلَاحٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِينَ إِنَّمَا هُمْ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَعُدِلَ عَنْ صِيغَةِ الْقَصْرِ لِئَلَّا يُحْتَمَلَ أَنَّهُ قَصْرُ مُبَالِغَةٍ لِأَنَّ نَفْيَ الْإِصْلَاحِ عَنْهُمْ يُؤَكِّدُ إِثْبَاتَ الْإِفْسَادِ لَهُمْ، فَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ فِي الذِّهْنِ، وَيَتَأَكَّدُ مَعْنَى إِفْسَادِهِمْ بِنَفْيِ ضِدّه كَقَوْل السموأل أَوِ الْحَارِثِيِّ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيف الْعَهْد.

الصفحة 176