كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

عَقِبَ جُزْءٍ، وَمَا قَالَهُ أَيْضًا: «أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى حَسَبِ الدَّوَاعِي وَالْحَوَادِثِ وَجَوَّابَاتِ السَّائِلِينَ» اه، أَيْ فَيَكُونُونَ أَوْعَى لِمَا يَنْزِلُ فِيهِ لِأَنَّهُمْ بِحَاجَةٍ إِلَى عِلْمِهِ، فَيَكْثُرُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَذَلِكَ مِمَّا يُثَبِّتُ فُؤَادَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَشْرَحُ صَدْرَهُ.
وَمَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ تَنْزِيلَهُ مُفَرَّقًا وَتَحَدِّيَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِبَعْضِ تِلْكَ التَّفَارُقِ كُلَّمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنْهَا، أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ وَأَنْوَرُ لِلْحُجَّةِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ كُلُّهُ جُمْلَةً» اه.
وَمِنْهُ مَا قَالَهُ الْجَدُّ الْوَزِيرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ لِمَا ظَهَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِهِ مُطَابَقَتُهَا لِمُقْتَضَى الْحَالِ وَمُنَاسَبَتُهَا لِلْمَقَامِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إِعْجَازِهَا. وَقُلْتُ: إِنَّ نُزُولَهُ مُنَجَّمًا أَعُونُ لِحُفَّاظِهِ عَلَى فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا عُطِفَ عَلَى قَوْله كَذلِكَ، أَي أَنْزَلْنَاهُ مُنَجَّمًا وَرَتَّلْنَاهُ، وَالتَّرْتِيلُ يُوصَفُ بِهِ الْكَلَامُ إِذَا كَانَ حَسَنَ التَّأْلِيفِ بَيِّنَ الدَّلَالَةِ. وَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ مُرَتَّلٌ، وَرَتِلٌ، إِذَا كَانَتْ أَسْنَانُهُ مُفَلَّجَةً تُشْبِهُ نُورَ الْأُقْحُوَانِ. وَلَمْ يُورِدُوا شَاهِدًا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَالتَّرْتِيلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالَةً لِنُزُولِ الْقُرْآنِ، أَيْ نَزَّلْنَاهُ مُفَرَّقًا مُنَسَّقًا فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ غَيْرَ مُتَرَاكِمٍ فَهُوَ مُفَرَّقٌ فِي الزَّمَانِ فَإِذَا كَمُلَ إِنْزَالُ سُورَةٍ جَاءَتْ آيَاتُهَا مَرَتَّبَةً مُتَنَاسِبَةً كَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَمُفَرَّقٌ فِي التَّأْلِيفِ بِأَنَّهُ مُفَصَّلٌ وَاضِحٌ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ شَأْنَ كَلَامِ النَّاسِ إِذَا فُرِّقَ تَأْلِيفُهُ عَلَى أَزْمِنَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ أَنْ يَعْتَوِرَهُ التَّفَكُّكُ وَعَدَمُ تَشَابُهِ الْجُمَلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ رَتَّلْناهُ أَمَرْنَا بِتَرْتِيلِهِ، أَيْ بِقِرَاءَتِهِ مُرَتَّلًا، أَيْ بِتَمَهُّلٍ بِأَنْ لَا يُعَجَّلَ فِي قِرَاءَتِهِ بِأَنْ تُبَيَّنَ جَمِيعُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ بِمَهَلٍ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [4]
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.
وتَرْتِيلًا مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ قُصِدَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَصَارَ الْمَصْدَرُ مُبَيِّنًا لنَوْع الترتيل.

الصفحة 20