كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

ذَلِكَ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ.
وَالْمَعْزُولُ: الْمُبْعَدُ عَنْ أَمْرٍ فَهُوَ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِلْكَهَانَةِ مَنْ أَصْلِهَا وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الِاتِّصَالِ بِالْقُوَى الرُّوحِيَّةِ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ مُنْذُ ظُهُور الْإِسْلَام.
[213]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 213]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
لَمَّا وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاء: 193، 194] إِلَى هُنَا، فِي آيَاتٍ أَشَادَتْ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّقَتْ صِدْقَهُ بِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ وَشَهِدَ بِهِ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْحَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ
بِإِبْطَالِ مَا أَلْصَقُوهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ بُهْتَانِهِمْ، لَا جَرَمَ اقْتَضَى ذَلِكَ ثُبُوتَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ إِبْطَالُ دِينِ الشِّرْكِ الَّذِي تَقَلَّدَتْهُ قُرَيْشٌ وَغَيْرُهَا وَنَاضَلَتْ عَلَيْهِ بِالْأَكَاذِيبِ فَنَاسَبَ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ.
فَقَوْلُهُ: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا النَّهْيِ وَقَعَ تَوْجِيهُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَحَقُّقِ أَنَّهُ مُنْتَهٍ عَنْ ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلَّذِينِ هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالْإِشْرَاكِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر: 65] . وَالْمَقْصُودُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْخِطَابِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَبْلُغُهُ الْخِطَابُ.
فَالْمَعْنَى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونُوا مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ سَيُعَذَّبُونَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ غير مُشْرِكين.
[214]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 214]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاء:
193، 194] ، فَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَاصِّ. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِقَبُولِ

الصفحة 200