كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 221 إِلَى 223]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)
لَمَّا سَفَّهَ قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ قَوْلُ كَاهِنٍ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ [الشُّعَرَاء: 210] وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيَاطِينِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ مِثْلَهُ، وَأَنَّهُمْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَخْبَارِ أَوْلِيَائِهِمْ، عَادَ الْكَلَامُ إِلَى وَصْفِ حَالِ كُهَّانِهِمْ لِيَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي رَمَوْا بِهِ الْقُرْآنَ لَا يَنْبَغِي أَن يلتبس بِحَالِ أَوْلِيَائِهِمْ. فَالْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ فِي الْمَعْنى بجملة: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ [الشُّعَرَاء: 210] ، أَي مَا تنزّلت الشَّيَاطِين بِالْقُرْآنِ على مُحَمَّد هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ.
وَأُلْقِيَ الْكَلَامُ إِلَيْهِمْ فِي صُورَة استفهامهم عَنْ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ بِمَنْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، اسْتِفْهَامًا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ مِمَّا يَسُوءُهُمْ لِذَلِكَ وَيحْتَاج فِيهِ إِلَى إِذْنِهِمْ بِكَشْفِهِ.
وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ صُورِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْخَبَرِ مِمَّا يُسْتَأْذَنُ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ.
وَاخْتِيرَ لَهُ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ الدَّالُّ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ هَلْ لِأَنَّ هَلْ فِي الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى (قَدْ) وَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ فِيهَا بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، فَالْمَعْنَى: أُنَبِّئُكُمْ إِنْبَاءً ثَابِتًا مُحَقَّقًا وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ لَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ جَوَابُ الْمُسْتَفْهَمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ فَلِذَلِكَ يَعْقُبُهُ الْإِفْضَاءُ بِمَا اسْتَفْهَمَ عَنْهُ قَبْلَ الْإِذْنِ مِنَ السَّامِعِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: 1، 2] وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ فَرْقٌ.
وَفِعْلُ أُنَبِّئُكُمْ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ.
وَهُوَ أَيْضًا اسْتِفْهَامٌ صُورِيٌّ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ كِنَايَةً عَنْ أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ بِحَيْثُ إِنَّهُ مِمَّا يَسْتَفْهِمُ عَنْهُ الْمُتَحَسِّسُونَ وَيَتَطَلَّبُونَهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ مِنْ لَوَازِمِ الِاهْتِمَامِ.
وَالْمَجْرُورُ مُقَدَّمٌ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُتَنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: مَنْ تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، فَلَمَّا قَدَّمَ الْمَجْرُورَ دَخَلَ حَرْفُ عَلى عَلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ مَنْ لِأَن مَا صدقهَا هُوَ الْمُتَنَزَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ فِي صَدْرِ
الْكَلَامِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الِاسْتِفْهَامِ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الِاسْمِيَّةِ وَهُوَ أَصْلُهَا، وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَلْ، فَإِذَا لَزِمَ مَجِيءُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ

الصفحة 205