كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

وَمَعْنَى: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أَيْ كَانَ إِقْبَالُهُمْ على الْقُرْآن وَالْعِبَادَة أَكْثَرَ مِنْ إِقْبَالِهِمْ عَلَى الشِّعْرِ. وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَهُمْ مَنْ أَسْلَمُوا مِنَ الشُّعَرَاءِ وَقَالُوا الشِّعْرَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَالِانْتِصَارِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَقَدْ قَالُوا شِعْرًا كَثِيرًا فِي ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمُوا مِنَ الْأَنْصَارِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدُ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلُ لَبِيَدٍ، وَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَسُحَيْمٍ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ، وَلَيْسَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الشُّعَرَاءِ بِمُقْتَضِي كَوْنَ بَعْضِ السُّورَةِ مَدَنِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلَ السُّورَةِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلشِّعْرِ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَحَالَةٌ مَأْذُونَةٌ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذَمَّهُ لَيْسَ لِكَوْنِهِ شِعْرًا وَلَكِنْ لِمَا حَفَّ بِهِ مِنْ مَعَانٍ وَأَحْوَالٍ اقْتَضَتِ الْمَذَمَّةَ، فَانْفَتَحَ بِالْآيَةِ لِلشِّعْرِ بَابُ قَبُولٍ وَمَدْحٍ فَحَقٌّ عَلَى أَهْلِ النَّظَرِ ضَبْطُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَأْوِي إِلَى جَانِبِ قَبُولِهِ أَوْ إِلَى جَانِبِ مَدْحِهِ، وَالَّتِي تَأْوِي إِلَى جَانِبِ رَفْضِهِ. وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى الْحَالَةِ الْمَمْدُوحَةِ قَوْلُهُ:
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، وَإِلَى الْحَالَةِ الْمَأْذُونَةِ قَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
وَكَيْفَ وَقَدْ أَثْنَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ الشِّعْرِ مِمَّا فِيهِ مَحَامِدُ الْخِصَالِ واستنصت أَصْحَابه
لشعر كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ مِمَّا فِيهِ دِقَّةُ صِفَاتِ الرَّوَاحِلِ الْفَارِهَةِ، عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لِحَسَّانَ فِي مُهَاجَاةِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ لَهُ: «كَلَامُكَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ..» وَقَالَ لَهُ: «قُلْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ» . وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ فِي سُورَةِ يس [69] . وَأَجَازَ عَلَيْهِ كَمَا أَجَازَ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ فَخَلَعَ عَلَيْهِ بُرْدَتَهُ، فَتِلْكَ حَالَةٌ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُ جَاءَ مُؤْمِنًا.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ، أَوْ أَشْعَرُ كَلِمَةٍ قَالَتْهَا الْعَرَبُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ»
وَكَانَ يَسْتَنْشِدُ شِعْرَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَقَالَ: «كَادَ أُمَيَّةُ أَنْ يسلم» ، وَأمر حسّانا بِهِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ لَهُ: «قُلْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ» . وَقَالَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: «لَكَلَامُكَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ» .

الصفحة 211