كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَأْتُونَكَ تَشْمَلُ مَا عَسَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَقَوْلِهِمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: 92] .
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ يَقْتَضِيهَا عُمُومُ الْأَمْثَالِ لِأَنَّ عُمُومَ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ.
وَجُمْلَةُ جِئْناكَ حَالِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الْفرْقَان: 20] .
وَقَوْلُهُ جِئْناكَ بِالْحَقِّ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: لَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ وَهُوَ مَجِيءٌ مَجَازِيٌّ. وَمُقَابَلَةُ جِئْناكَ بِالْحَقِّ لِقَوْلِهِ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا يَأْتُونَ بِهِ بَاطِلٌ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: 7] ، أَبْطَلَهُ قَوْلُهُ:
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان:
20] .
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ مَا يُؤَيِّدُهُ اللَّهُ مِنَ الْحُجَّةِ بِ جِئْناكَ دُونَ: أَتَيْنَاكَ، كَمَا عُبِّرَ عَمَّا يَجِيئُونَ بِهِ بِ يَأْتُونَكَ إِمَّا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِعْلَ الْإِتْيَانِ إِذَا اسْتُعْمِلَ مَجَازًا كَثُرَ فِيمَا يَسُوءُ وَمَا يُكْرَهُ، كَالْوَعِيدِ وَالْهِجَاءِ، قَالَ شَقِيقُ بْنُ شَرِيكٍ الْأَسَدِيُّ:
أَتَانِي مِنْ أَبِي أَنَسٍ وَعِيدٌ ... فَسُلَّ لِغَيْظَةِ الضَّحَّاكِ جِسْمِي
وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
أَتَانِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي وَقَوْلُهُ:
فَلَيَأْتِيَنْكَ قَصَائِدٌ وَلَيَدْفَعَنْ ... جَيْشًا إِلَيْكَ قَوَادِمُ الْأَكْوَارِ
يُرِيدُ قَصَائِدَ الْهِجَاءِ. وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لِلُوطٍ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ [الْحجر: 64] أَيْ عَذَابُ قَوْمِهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا لَهُ فِي الْمَجِيءِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ. وَتَقَدَّمَ فِي
سُورَةِ الْحِجْرِ [63] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً [يُونُس: 24] أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: 1] فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْر: 2] ، بِخِلَافِ فِعْلِ الْمَجِيءِ إِذَا

الصفحة 22