كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْنَ بِسَحْرَةٍ ... فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ
وَسَمَّوْا بِالرَّسِّ مَا عَرَفُوهُ مِنْ بِلَادِ فَارِسَ، وَإِضَافَةُ أَصْحابَ إِلَى الرَّسِّ إِمَّا لِأَنَّهُمْ أَصَابَهُمُ الْخَسْفُ فِي رَسٍّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ نَازِلُونَ عَلَى رَسٍّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمُ احْتَفَرُوا رَسًّا، كَمَا سُمِّيَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ الَّذِينَ خَدُّوهُ وَأَضْرَمُوهُ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بِلَادِ الْيَمَامَةِ وَيُسَمَّى «فَلْجًا» (¬1) .
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنِيِّ مِنْ أَصْحابَ الرَّسِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقِيلَ هُمْ قَوْمٌ مِنْ بَقَايَا ثَمُودَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا فِي عَدَنٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ رَسُولًا.
وَكَانَتِ الْعَنْقَاءُ وَهِيَ طَائِرٌ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الطَّيْرِ (سُمِّيَتِ الْعَنْقَاءَ لِطُولِ عُنُقِهَا) وَكَانَتْ تَسْكُنُ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ «فَتْحٌ» (¬2) ، وَكَانَتْ تَنْقَضُّ عَلَى صِبْيَانِهِمْ فَتَخْطَفُهُمْ إِنْ أَعْوَزَهَا الصَّيْدُ
فَدَعَا عَلَيْهَا حَنْظَلَةُ فَأَهْلَكَهَا اللَّهُ بِالصَّوَاعِقِ. وَقَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَقَتَلُوا نَبِيئَهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ.
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: خُسِفَ بِهِمْ وَبِدِيَارِهِمْ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: قَوْمٌ كَانُوا مَعَ قَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: الرَّسُّ بِئْرٌ بِأَنْطَاكِيَةَ، وَأَصْحَابُ الرَّسِّ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ حَبِيبٌ النَّجَّارُ فَقَتَلُوهُ وَرَسُّوهُ فِي بِئْرٍ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ يس [20] وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: الرَّسُّ وَادٍ فِي «أَذْرَبِيجَانَ» فِي «أَرَّانَ» يَخْرُجُ مِنْ «قَالِيقَلَا» وَيَصُبُّ فِي بُحَيْرَةِ «جُرْجَانَ» وَلَا أَحْسَبُ أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّهُ مِنْ تَشَابُهِ الْأَسْمَاءِ يُقَالُ: كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفُ مَدِينَةٍ هَلَكَتْ بِالْخَسْفِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ.
وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ فَإِنَّ الْقَرْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ [6] .
وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»
الْحَدِيثَ.
¬_________
(¬1) فلج بِفتْحَتَيْنِ. وَقَالَ ياقوت: بِفَتْح فَسُكُون اسْم بلد، وَيُقَال: بطن فلج من همى ضريّة.
(¬2) وَهُوَ أول الدهناء بفاء أُخْت الْقَاف ومثناة فوقية بعْدهَا خاء مُعْجمَة، وَقيل حاء مُهْملَة: جبل أَو قَرْيَة لأهل الرسّ لم يذكرهُ ياقوت، وَذكر فتاح وَقَالَ: جمع فتح وَقَالَ: أَرض بالدهناء ذَات رمال.

الصفحة 28