كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

تَعَالَى وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الْحجر: 76] وَقَالَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات:
137، 138] .
وَظَرْفُ إِذْ يَتَعَلَّقُ بِ (أَرْسَلْنَا) أَوْ بِ (اذْكُرْ) الْمُقَدَّرَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْتُونَ إِنْكَارِيٌّ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ حَالٌ زِيَادَةٌ فِي التَّشْنِيعِ، أَيْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَنًا يُبْصِرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ التَّجَاهُرَ بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهَا وَذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بالنواهي.
وَقَوله: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ [81] إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ، فَهُنَا جِيءَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَمَا فِي الْأَعْرَافِ جَاءَ الْخَبَرُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْإِنْكَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْحِكَايَةِ لِاخْتِلَافِ الْمَحْكِيِّ بِأَنْ يَكُونَ لُوطٌ قَدْ قَالَ لَهُمُ الْمَقَالَتَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْحِكَايَةِ تَفَنُّنًا مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَكِلَا الْأُسْلُوبَيْنِ يَقَعُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِ.
عَلَى أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ وَأَبَا عَمْرٍو وَابْنَ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَأَبَا بَكْرٍ عَن عَاصِم قرأوا مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِهَمْزَتَيْنِ فَاسْتَوَتِ الْآيَتَانِ عَلَى قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ وُجُوهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَوَقَعَ فِي الْأَعْرَافِ [80] أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا لِأَنَّ مَا يَجْرِي فِي الْقِصَّةِ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ جَمِيعِهِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي عَدَمِ ذِكْرِ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ ذِكْرِهِ هُنَا.
وَنَظِيرُ بَقِيَّةِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّ الْوَاقِعَ هُنَا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فَوَصَفَهُمْ بِالْجَهَالَةِ وَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ أُفْنِ الرَّأْيِ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ.
وَفِي الْأَعْرَافِ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقَالَتَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ.
وَفِي إِقْحَامِ لَفْظِ قَوْمٌ فِي الْآيَتَيْنِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النَّمْل: 52] .

الصفحة 288