كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

لِلتِّجَارَةِ إِلَى الشَّامِ فَكَانَتْ دِيَارُهُمْ يَمُرُّ بِهَا طَرِيقُهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: 137، 138] . وَكَانَ طَرِيقُ تِجَارَتِهِمْ مِنْ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَيَدْخُلُونَ أَرْضَ فِلَسْطِينَ فَيَمُرُّونَ حَذْوَ بُحَيْرَةِ لُوطٍ الَّتِي عَلَى شَافَّتِهَا بَقَايَا مَدِينَةِ «سَدُومَ» وَمُعْظَمُهَا غَمَرَهَا الْمَاءُ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [79] .
وَالْإِتْيَانُ: الْمَجِيءُ. وَتَعْدِيَتُهُ بِ عَلَى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: مَرُّوا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِمَجِيءِ الْقَرْيَةِ التَّذْكِيرُ بِمَصِيرِ أَهْلِهَا فَكَأَنَّ مَجِيئَهُمْ إِيَّاهَا مُرُورٌ بِأَهْلِهَا، فَضَمَّنَ الْمَجِيءَ مَعْنَى الْمُرُورِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُرُورَ، فَإِنَّ الْمُرُورَ يَتَعَلَّقُ بِالسُّكَّانِ وَالْمَجِيءَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ فَيُقَالُ:
جِئْنَا خُرَاسَانَ، وَلَا يُقَالُ: مَرَرْنَا بِخُرَاسَانَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: 137، 138] .
وَوَصَفَ الْقَرْيَةَ بِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ لِأَنَّهَا اشْتُهِرَتْ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَأهل الْكِتَابِ. وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ «سَدُومَ» بِفَتْحِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ وَكَانَتْ لِقَوْمِ لُوطٍ قُرًى خَمْسٌ أَعْظَمُهَا «سَدُومُ» . وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [80] .
ومَطَرَ السَّوْءِ هُوَ عَذَابٌ نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ وَرَمَادٍ، وَتَسْمِيَتُهُ مَطَرًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَطَرِ مَاءُ السَّمَاءِ.
وَالسَّوْءُ بِفَتْحِ السِّينِ: الضُّرُّ وَالْعَذَابُ، وَأَمَّا بِضَمِّ السِّينِ فَهُوَ مَا يَسُوءُ. وَالْفَتْحُ هُوَ الْأَصْلُ فِي مَصْدَرِ سَاءَهُ، وَأَمَّا السُّوءُ بِالضَّمِّ فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، فَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَصْدَرِ فِي الَّذِي يَسُوءُ بِضُرٍّ، وَاسْتِعْمَالُ اسْمِ الْمَصْدَرِ فِي ضِدِّ الْإِحْسَانِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى تَحْقِيقِ إِتْيَانِهِمْ عَلَى الْقَرْيَةِ مَعَ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهِ اسْتِفْهَامٌ صُورِيٌّ عَنِ انْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهَا حِينَمَا يَأْتُونَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَتَّعِظُوا بِهَا كَانُوا بِحَالِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُمْ: هَلْ رَأَوْهَا، فَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ لِإِيقَاظِ الْعُقُولِ لِلْبَحْثِ عَنْ حَالِهِمْ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِمَّا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّهْدِيدِ، وَإِمَّا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِيقَاظِ لِمَعْرِفَةِ سَبَبِ عَدَمِ اتِّعَاظِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ

الصفحة 30