كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

بِالِاقْتِضَابِ مَعْنَى الْقَطْعِ (أَيِ الْحَذْفِ مِنَ الْكَلَامِ) أَيْ إِيجَازِ الْحَذْفِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ «يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ تَقْدِيرُهُ إِلَخْ» ، كَانَ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِي «الْكَشَّافِ» : «وَلَوْ شِئْنَا لَخَفَّفْنَا عَنْكَ أعباء نذارة جَمِيع الْقُرَى وَلَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَبِيئًا يُنْذِرُهَا، وَإِنَّمَا قَصَرْنَا الْأَمْرَ عَلَيْكَ وَعَظَّمْنَاكَ عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ (أَيْ بِعُمُومِ الدَّعْوَةِ) فَقَابَلَ ذَلِكَ بِالتَّصَبُّرِ» اه. وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: «وَمَدَارُ السُّورَةِ عَلَى كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِمَا يُثْبِتُ عُمُومَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفرْقَان: 1] .
وَلَيْسَ فِي كَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَالطِّيبِيِّ إِلَّا بَيَانُ مُنَاسَبَةِ الْآيَةِ لِمُهِمِّ أَغْرَاضِ السُّورَةِ دُونَ
بَيَانِ مُنَاسَبَتِهَا لِلَّتِي قَبْلَهَا.
وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] الْآيَةَ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ إِبْطَالَ طَعْنِهِمْ فَقَالَ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: 32] انْتَقَلَ إِلَى تَنْظِيرِ الْقُرْآنِ بِالْكِتَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَيْفَ اسْتَأْصَلَ اللَّهُ مَنْ كَذَّبُوهُ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بِذِكْرِ أُمَمٍ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشَارَ إِلَى تَحَرُّجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ بِقَوْلِهِ:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الْفرْقَان: 43] .
وَتَسَلْسُلِ الْكَلَامِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِمَدِّ الظِّلِّ وَقَبْضِهِ، وَبِحَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ، أَمَارَةٌ عَلَى رَحْمَةِ غَيْثِهِ الَّذِي تَحْيَا بِهِ الْمَوَاتُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا اشْتِمَالُ التَّفْرِيعِ عَلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَجاهِدْهُمْ بِهِ.
وَمِمَّا يَزِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ اتِّصَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: 32] أَنَّ فِي بَعْثِ نَذِيرٍ إِلَى كُلِّ قَرْيَةٍ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ مُجَزَّأً فَلَوْ بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَقَالَ الَّذين كفرُوا: لَوْلَا أُرْسِلَ رَسُولٌ وَاحِدٌ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا فَإِنَّ مَطَاعِنَهُمْ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ فِي سُورَة حم فصلت

الصفحة 52