كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِهِمْ. وَالتَّأْكِيدُ بِلَامِ الْقَسَمِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ لِأَنَّ الْقَسَمَ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ كَقَوْلِ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ أَوْ بَنِي نُمَيْرٍ أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ فِي «مَجَالِسِهِ» وَالْقَالِيُّ فِي «أَمَالِيهِ» :
أَلَا يَا سَنَا بَرْقٍ عَلَى قُلَلِ الْحِمَى ... لَهِنَّكَ مِنْ بَرْقٍ عَلَيَّ كَرِيمُ
فَإِنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَرْقٍ، فِي قُوَّةِ التَّمْيِيزِ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّمْيِيزُ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّعَجُّبِ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: مُبَالَغَةٌ فِي التَّكَبُّرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ شُبِّهَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالظُّرُوفِ فِي تَمَكُّنِ الْمَظْرُوفِ مِنْهَا، أَيْ هُوَ اسْتِكْبَارٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] .
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي لِلتَّعْلِيلِ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا»
الْحَدِيثَ، أَيِ اسْتَكْبَرُوا لِأَجْلِ عَظَمَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ. وَلَيْسَتِ الظَّرْفِيَّةُ حَقِيقِيَّةً لِقِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاسْتِكْبَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْسِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّفْسِيَّةِ.
وَالْعُتُوُّ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فِي الْأَعْرَافِ [77] . وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظُلْمًا لِأَنَّهُمْ تَجَاوَزُوا مِقْدَارَ مَا خَوَّلَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْقَابِلِيَّةِ.
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النُّبُوءَةَ لَا تَكُونُ بِالِاكْتِسَابِ وَإِنَّمَا هِيَ إِعْدَادٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] .
[22]

[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 22]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)
اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ جَوَابٌ عَنْ مَقَالَتِهِمْ، فَبَعْدَ إِبْدَاءِ التَّعْجِيبِ مِنْهَا عَقَّبَ بِوَعِيدٍ لَهُمْ، فِيهِ حُصُولُ بَعْضِ مَا طَلَبُوا حُصُولَهُ الْآنَ، أَيْ هُمْ سَيَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ وَلَكِنَّهَا رُؤْيَةٌ تَسُوءُهُمْ حِينَ يَرَوْنَ زَبَانِيَةَ الْعَذَابِ يَسُوقُونَهُمْ إِلَى النَّارِ، فَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَاف تلميح وَتَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ مُطَمِّعٌ بِالِاسْتِجَابَةِ وَآخِرَهُ مُؤَيَّسٌ بِالْوَعِيدِ، فَالْكَلَامُ جَرَى

الصفحة 6