كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفرْقَان: 47] فَيَكْثُرُ الشَّاكِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَمُنَاسَبَاتِهِمْ، وَتُفِيدُ مَعْنَى:
لِيَتَدَارَكَ النَّاسِي مَا فَاتَهُ فِي اللَّيْلِ بِسَبَبِ غَلَبَةِ النَّوْمِ أَوِ التَّعَبِ فَيَقْضِيَهُ فِي النَّهَارِ أَوْ مَا شَغَلَهُ عَنْهُ شَوَاغِلُ الْعَمَلِ فِي النَّهَارِ فَيَقْضِيَهُ بِاللَّيْلِ عِنْدَ التَّفَرُّغِ فَلَا يَرْزَؤُهُ ذَلِكَ ثَوَابَ أَعْمَالِهِ. رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَطَالَ صَلَاةَ الضُّحَى يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ: صَنَعْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ؟
فَقَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ وِرْدِي شَيْءٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَقْضِيَهُ وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً الْآيَةَ. وَلِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ شُكْرًا لَهُ بِصَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ فَيَكُونَ اللَّيْلُ أَسْعَدَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَالنَّهَارُ أَسْعَدَ بِبَعْضٍ، فَهَذَا مُفَادٌ عَظِيمٌ فِي إِيجَازٍ بَدِيعٍ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ الْمُتَذَكِّرِينَ بِقَوْلِهِ أَنْ يَذَّكَّرَ لِدَلَالَةِ الْمُضَارِعِ عَلَى التَّجَدُّدِ. وَاقْتَصَرَ فِي جَانِبِ الشَّاكِرِينَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِقَوْلِهِ أَوْ أَرادَ شُكُوراً لِأَنَّ الشُّكْرَ يَحْصُلُ دُفْعَةً.
وَلِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّظْمَيْنِ أُعِيدَ فِعْلُ أَرادَ إِذْ لَا يَلْتَئِمُ عَطْفُ شُكُوراً عَلَى أَنْ يَذَّكَّرَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَذَّكَّرَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ مَفْتُوحَةً، وَأَصْلُهُ: يَتَذَكَّرُ فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِهِمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ أَنْ يَذَّكَّرَ بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ بِمَعْنَى
الْمُشَدَّدِ إِلَّا أَنَّ الْمُشَدَّدَ أَشَدُّ عَمَلًا، وَكِلَا الْعَمَلَيْنِ يُسْتَدْرَكَانِ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار.
[63]

[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 63]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63)
عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ هِيَ عِبادُ الرَّحْمنِ إِلَخْ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَخْ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الْفرْقَان: 75] . وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفرْقَان: 62] إِلَخْ. فَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ تُخُلِّصَ إِلَى خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ السُّورَةُ أَغْرَاضَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَمَنِ اتَّبَعُوهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْإِلْمَامِ بِأَهَمِّ أَغْرَاضِهَا فِي طَالِعَةِ تَفْسِيرِهَا. وَهَذَا مِنْ

الصفحة 66