كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

أَبْدَعِ التَّخَلُّصِ إِذْ كَانَ مُفَاجِئًا لِلسَّامِعِ مُطْمِعًا أَنَّهُ اسْتِطْرَادٌ عَارِضٌ كَسَوَابِقِهِ حَتَّى يُفَاجِئَهُ مَا يُؤْذِنُ بِالْخِتَامِ وَهُوَ قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي [الْفرْقَان: 77] الْآيَةَ.
وَالْمُرَاد بِ عِبادُ الرَّحْمنِ بادىء ذِي بَدْءٍ أَصْحَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالصلات الثَّمَانِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِكَايَةٌ لِأَوْصَافِهِمُ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا.
وَإِذْ قَدْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ فِي مَقَامِ الثَّنَاءِ وَالْوَعْدِ بِجَزَاءِ الْجَنَّةِ عُلِمَ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ مَوْعُودٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَقَدْ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَ عُنْوَانَهُمْ عِبَادَهُ، وَاخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِهِ اسْمَ الرَّحْمَنِ لِوُقُوعِ ذِكْرِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ. قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] . فَإِذَا جُعِلَ الْمُرَادُ مِنْ عِبادُ الرَّحْمنِ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَى آخَرِ الْمَعْطُوفَاتِ وَكَانَ قَوْلُهُ الْآتِي أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الْفرْقَان: 75] اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ كَوْنِهِمْ أَحْرِيَاءَ بِمَا بَعَدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ عِبادُ الرَّحْمنِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِمَضْمُونِ تِلْكَ الصِّلَاتِ كَانَتْ تِلْكَ الْمَوْصُولَاتُ وَصِلَاتُهَا نُعُوتًا لِ عِبادُ الرَّحْمنِ وَكَانَ الْخَبَرُ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ [الْفرْقَان: 75] إِلَخْ.
وَفِي الْإِطْنَابِ بِصِفَاتِهِمُ الطَّيِّبَةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ أَبَوا السُّجُود للرحمان وَزَادَهُمْ نُفُورًا هُمْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ تِلْكَ الْمَحَامِدِ، تَعْرِيضًا تُشْعِرُ بِهِ إِضَافَةُ عِبادُ إِلَى الرَّحْمنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الصِّلَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى عِبادُ الرَّحْمنِ جَاءَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ هُوَ مِنَ التَّحَلِّي بِالْكِمَالَاتِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي ابْتُدِئَ بِهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَى قَوْله سَلاماً [الْفرْقَان: 75] .
وَقِسْمٌ هُوَ مِنَ التَّخَلِّي عَنْ ضَلَالَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَهُوَ الَّذِي مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفرْقَان: 68] .
وَقِسْمٌ هُوَ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الْفرْقَان: 64] ،

الصفحة 67