كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

فَمَا وَجَدْتُ فِي ذَلِكَ شِفَاءً فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ مَنْ جَاءَنِي فَقَالَ لِي: «هُمُ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» . فَهَذَا رَأْيٌ لِزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أُلْهِمَهُ يَجْعَلُ مَعْنَى يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ لِلْعَمَلِ فِي الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها [الْبَقَرَة: 205] وَأَنَّ الْهَوْنَ مُسْتَعَارٌ لِفِعْلِ الْخَيْرِ لِأَنَّهُ هَوَّنَ عَلَى النَّاسِ كَمَا يُسَمَّى بِالْمَعْرُوفِ.
وَقُرِنَ وَصَفُهُمْ بِالتَّوَاضُعِ فِي سَمْتِهِمْ وَهُوَ الْمَشْيُ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا بِوَصْفٍ آخَرَ يُنَاسِبُ التَّوَاضُعَ وَكَرَاهِيَةَ التَّطَاوُلِ وَهُوَ مُتَارَكَةُ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ عَلَيْهِمْ فِي الْخِطَابِ بِالْأَذَى وَالشَّتْمِ وَهَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ يَوْمَئِذٍ هُمُ الْمُشْرِكُونَ إِذْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وَالشَّتْمِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ مُتَارَكَةَ السُّفَهَاءِ، فَالْجَهْلُ هُنَا ضِدُّ الْحِلْمِ، وَذَلِكَ أَشْهَرُ إِطْلَاقَاتِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ.
وَانْتُصِبَ سَلاماً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَذَكَّرَهُمْ بِصِفَةِ الْجَاهِلِينَ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مَذَمَّةً مِثْلَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْخِطَابَ الصَّادِرَ مِنْهُمْ خِطَابُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفْوَةِ.
وَ (السَّلَامُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، أَيْ لَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ فَنَحْنُ مُسَلَّمُونَ مِنْكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ لَفْظُ التَّحِيَّةِ فَيَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الْمُتَارَكَةُ لِأَنَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ السَّلَامِ فِي التَّحِيَّةِ أَنَّهُ يُؤْذِنُ بِالتَّأْمِينِ، أَي عدم لإهاجة، وَالتَّأْمِينُ: أَوَّلُ مَا يَلْقَى بِهِ الْمَرْءُ مَنْ يُرِيدُ إِكْرَامَهُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: 55] .
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأُرِيتُ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ وَكَانَ مِنَ الْمَائِلِينَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَوْمًا بِحَضْرَةِ الْمَأْمُونِ (¬1) وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ: كُنْتُ أَرَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي النَّوْمِ فَكُنْتُ أَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَكَانَ يَقُولُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، فَكُنْتُ أَجِيءُ مَعَهُ إِلَى قَنْطَرَةٍ فَيَذْهَبُ فَيَتَقَدَّمُنِي فِي عبورها فَكنت أَقُولُ: إِنَّمَا تَدَّعِي هَذَا الْأَمْرَ بِامْرَأَةٍ وَنَحْنُ أَحَقُّ
¬_________
(¬1) لِأَن الْمَأْمُون كَانَ متشيعا للعلويين.

الصفحة 69