كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اللُّقِيِّ لِسَمَاعِ أَلْفَاظِ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ لِأَجْلِ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ التَّحِيَّةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَلْقَوْنَهُمْ بِهَا، فَهُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ قَالَ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [103] .
وَقَوْلُهُ: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً هُوَ ضِدُّ مَا قِيلَ فِي الْمُشْرِكِينَ إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الْفرْقَان: 66] . وَالتَّحِيَّةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [86] ، وَفِي قَوْلِهِ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [10] ، وَقَوْلِهِ: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فِي آخر النُّور [61] .
[77]

[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 77]
قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
لَمَّا اسْتَوْعَبَتِ السُّورَةُ أَغْرَاضَ التَّنْوِيهِ بِالرِّسَالَةِ وَالْقُرْآنِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَمِنْ صِفَةِ كِبْرِيَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ، وَأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُقِيمَتِ الْحُجَجُ الدَّامِغَةُ لِلْمُعْرِضِينَ، خُتِمَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُخَاطِبَ الْمُشْرِكِينَ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ يُزَالُ بِهَا غُرُورُهُمْ وَإِعْجَابُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَحُسْبَانُهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ شَفَوْا غَلِيلَهُمْ مِنَ الرَّسُولِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَتِهِ وَتَوَرُّكِهِمْ فِي مُجَادَلَتِهِ فَبَيَّنَ لَهُمْ حَقَارَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَخَاطَبَهُمْ بِكِتَابِهِ إِلَّا رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ لِإِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَقَطْعًا لِعُذْرِهِمْ فَإِذْ كَذَّبُوا فَسَوْفَ يَحِلُّ بِهِمُ الْعَذَابُ.
وَمَا مِنْ قَوْله: مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ نَافِيَةٌ. وَتَرْكِيبُ: مَا يَعْبَأُ بِهِ، يَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيرِ، وَضِدُّهُ عَبَأَ بِهِ يُفِيدُ الْحَفَاوَةَ.
وَمعنى مَا يَعْبَؤُا: مَا يُبَالِي وَمَا يَهْتَمُّ، وَهُوَ مُضَارِعُ عَبَأَ مِثْلَ: مَلَأَ يَمْلَأُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِبْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، أَيِ الشَّيْءُ الثَّقِيلُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ الْعِبْءُ عَلَى الْعِدْلِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، ثُمَّ تَشَعَّبَتْ عَنْ هَذَا إِطْلَاقَاتٌ كَثِيرَةٌ. فَأصل مَا يَعْبَؤُا: مَا يَحْمِلُ عِبْئًا، تَمْثِيلًا بِحَالَةِ الْمُتْعَبِ مِنَ الشَّيْءِ، فَصَارَ الْمَقْصُودُ: مَا يَهْتَمُّ وَمَا يَكْتَرِثُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّةِ الْعِنَايَةِ.

الصفحة 85