كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِثْلَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَلِذَلِكَ خُتِمَ كُلُّ اسْتِدْلَالٍ جِيءَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِتَذْيِيلٍ وَاحِدٍ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشُّعَرَاء: 190، 191] تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ آيَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ عَدِيدَةٌ كَافِيَةٌ لِمَنْ يَتَطَلَّبُ الْحَقَّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُؤَمِنُونَ وَأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابَ وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِرُسُلِهِ فَنَاصِرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : كُلُّ قِصَّةٍ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَتَنْزِيلٍ بِرَأْسِهِ.
وَفِيهَا مِنَ الِاعْتِبَارِ مَا فِي غَيْرِهَا، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُدْلِي بِحَقٍّ فِي أَنْ تُخْتَمَ بِمَا اخْتُتِمَتْ بِهِ صَاحِبَتُهَا، وَلِأَنَّ فِي التَّكْرِيرِ تَقْرِيرًا لِلْمَعَانِي فِي الْأَنْفُسِ وَكُلَّمَا زَادَ تَرْدِيدُهُ كَانَ أَمْكَنَ لَهُ فِي الْقَلْبِ وَأَرْسَخَ فِي الْفَهْمِ وَأَبْعَدَ مِنَ النِّسْيَانِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ طُرِقَتْ بِهَا آذَانٌ وَقَرَتْ عَنِ الْإِنْصَاتِ لِلْحَقِّ فَكُوثِرَتْ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ وَرُوجِعَتْ بِالتَّرْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ لَعَلَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ أُذُنًا أَوْ يَفْتُقُ ذِهْنًا اه.
ثُمَّ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ، وَالرَّدُّ عَلَى مَطَاعِنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَجَعْلِهِ عِضِينَ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا وَمِنْ أَقْوَالِ الشَّيَاطِينِ، وَأَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ مَا عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ من دَلَائِل.
[1]

[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1)
يَأْتِي فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي جَمِيعِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ فِي مَعَانٍ مُتَمَاثِلَةٍ. وَأَظْهَرُ تِلْكَ الْمَعَانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْرِيضُ بِإِلْهَابِ نُفُوسِ الْمُنْكِرِينَ لِمُعَارَضَةِ بَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي بَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَتَحَدِّيهِمْ بِذَلِكَ وَالتَّوَرُّكُ عَلَيْهِمْ بِعَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ طسم قَسَمٌ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُقْسَمَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً [الشُّعَرَاء: 4] . فَقَالَ الْقُرَظِيُّ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِطُولِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ. وَقِيلَ الْحُرُوفُ مُقْتَضَبَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ذِي الطَّوْلِ، الْقُدُّوسِ، الْمَلِكِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهَا حُرُوفٌ لِلتَّهَجِّي وَاسْتِقْصَاءٌ فِي

الصفحة 91