كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 19)

وَمَفْعُولُ نَشَأْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْغَالِبَةِ فِي حذف مفعول فعل الْمَشِيئَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ نَشَأْ تَنْزِيلَ آيَةٍ مُلْجِئَةٍ نُنْزِلْهَا.
وَجِيءَ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُشْعِرَ بِعَدَمِ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ أَنْ لَا يَشَاءَهُ.
وَمَعْنَى انْتِفَاءِ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَحْصُلَ الْإِيمَانُ عَنْ نَظَرٍ وَاخْتِيَارٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْدَى لِانْتِشَارِ سُمْعَةِ الْإِسْلَامِ فِي مَبْدَأِ ظُهُورِهِ. فَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْعَلَامَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَهْدِيدِهِمْ بِالْإِهْلَاكِ تَهْدِيدًا مَحْسُوسًا بِأَنْ تَظْهَرَ لَهُمْ بِوَارِقُ تُنْذِرُ بِاقْتِرَابِ عَذَابٍ. وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [الْأَنْعَام: 35] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَنِعُوا بِآيَاتِ الْقُرْآنِ.
وَجَعْلُ تَنْزِيلِ الْآيَةِ مِنَ السَّمَاءِ حِينَئِذٍ أَوْضَحُ وَأَشَدُّ تَخْوِيفًا لِقِلَّةِ الْعَهْدِ بِأَمْثَالِهَا وَلِتَوَقُّعِ كُلِّ مَنْ تَحْتَ السَّمَاءِ أَنْ تُصِيبَهُ. فَإِن قلت: لماذَا لَمْ يُرِهِمْ آيَةً كَمَا أُرِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ نَتْقَ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ؟ قُلْتُ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُؤْمِنِينَ بِمُوسَى وَمَا جَاءَ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ إِظْهَارُ الْآيَاتِ لَهُمْ لِإِلْجَائِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَكِنَّهُ كَانَ لِزِيَادَةِ تَثْبِيتِهِمْ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَة: 260] .
وَفُرِّعَ عَلَى تَنْزِيلِ الْآيَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لَهَا وَهُوَ جُمْلَةُ فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ.
وَعُطِفَ فَظَلَّتْ وَهُوَ مَاضٍ عَلَى الْمُضَارِعِ قَوْلُهُ: نُنَزِّلْ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ جَوَابُ شَرْطٍ، فَلِلْمَعْطُوفِ حُكْمُ جَوَابِ الشَّرْطِ فَاسْتَوَى فِيهِ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ وَصِيغَةُ الْمَاضِي لِأَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ تُخَلِّصُ الْمَاضِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إِنْ شِئْنَا نَزَّلْنَا أَوْ إِنْ نَشَأْ نَزَّلْنَا، لَكَانَ سَوَاءً إِذِ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنِ اخْتِلَافِ فِعْلَيِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بِالْمُضَارِعِيَّةِ وَالْمَاضَوِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَاتِ يُتَّسَعُ فِيهَا مَا لَا يُتَّسَعُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِقَاعِدَةِ: أَنْ يُغْتَفَرَ فِي الثَّوَانِي مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأَوَائِلِ، كَمَا فِي الْقَاعِدَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ خُصُوصِيَّةٍ فِي كَلَامِ الْبَلِيغِ وَخَاصَّةً فِي الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ، وَهِيَ هُنَا أَمْرَانِ:

الصفحة 95