كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 21)

[سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 48]
وَما كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِصِفَةِ الْأُمِّيَّةِ الْمَعْرُوفِ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّهُ مُوحًى إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَعْظَمُ دَلَالَةٍ وَقَدْ وَرَدَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] وَقَوْلِهِ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
[يُونُس: 16] .
وَمَعْنَى: مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَقْرَأُ كِتَابًا حَتَّى يَقُولَ أَحَدٌ:
هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ مِمَّا كَانَ يَتْلُوهُ مِنْ قَبْلُ.
وَلَا تَخُطُّهُ أَيْ لَا تَكْتُبُ كِتَابًا وَلَوْ كُنْتَ لَا تَتْلُوهُ، فَالْمَقْصُودُ نَفْيُ حَالَتَيِ التَّعَلُّمِ، وَهَمَا التَّعَلُّمُ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّعَلُّمُ بِالْكِتَابَةِ اسْتِقْصَاءً فِي تَحْقِيقِ وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ فَإِنَّ الَّذِي يَحْفَظُ كِتَابًا وَلَا يَعْرِفُ يَكْتُبُ لَا يُعَدُّ أُمِّيًّا كَالْعُلَمَاءِ الْعُمْيِ، وَالَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَلَا يَحْفَظُ عِلْمًا لَا يُعَدُّ أُمِّيًّا مِثْلَ النُّسَّاخِ فَبِانْتِفَاءِ التِّلَاوَةِ وَالْخَطِّ تَحَقَّقَ وصف الأمية.
وإِذاً جَوَابٌ وَجَزَاءٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ بِ (لَوْ) لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا وَلا تَخُطُّهُ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كُنْتَ تَتْلُو قَبْلَهُ كِتَابًا أَوْ تَخُطُّهُ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.
ومجيء جَوَاب إِذاً مُقْتَرِنًا بِاللَّامِ الَّتِي يَغْلِبُ اقْتِرَانُ جَوَابِ (لَوْ) بِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ شَرْطٌ بِ (لَوْ) كَمَا فِي قَول قريظ الْعَنْبَرِيِّ:
لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي ... بَنُو اللَّقِيطَةِ مَنْ ذُهْلِ ابْنِ شَيْبَانَا

إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ ... عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لَانَا
قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» : (إِذَنْ) هُوَ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبَيْتَ الثَّانِيَ مَخْرَجَ جَوَابِ قَائِلٍ قَالَ لَهُ: وَلَوِ اسْتَبَاحُوا إِبِلَكَ مَاذَا كَانَ يَفْعَلُ بَنُو مَازِنٍ؟ فَقَالَ:
إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا: إِذَنْ لَقَامَ، جَوَابَ (لَوْ) كَأَنَّهُ أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ. وَهَذَا كَمَا

الصفحة 10