كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 21)

[46]

[سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 46]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ [العنكبوت: 45] الْآيَةَ، بِاعْتِبَارِ مَا
تَسْتَلْزِمُهُ تِلْكَ مِنْ مُتَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكَفِّ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ تَوْطِئَةٌ لِمَا سَيَحَدُثُ مِنَ الدَّعْوَةِ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مُجَادَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تَعْرِضُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إِبَّانِ نُزُولِ أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى وَشْكِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مُجَادِلَةً لِلْمُشْرِكِينَ غَلِيظَةً عَلَيْهِمْ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْعَنْكَبُوتِ، وَقَوْلُهُ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ هَيَّأَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرِيقَةَ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَوْدِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [العنكبوت: 47] الْآيَاتِ.
وَجِيءَ فِي النَّهْيِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِيَعُمَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ إِذْ قَدْ تَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِينَ مُجَادَلَاتٌ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي غَيْرِ حَضْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَبْلَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ.
وَالْمُجَادَلَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى رَأْيٍ اخْتَلَفَ فِيهِ صَاحِبُهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [107] . وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِحُكْمِ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى

الصفحة 5