كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 22)
وَقَدِ اسْتَحْسَنَ أَيِمَّةُ السَّلَفِ أَنْ يُجْعَلَ الدُّعَاءُ بِالصَّلَاةِ مَخْصُوصًا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ نَبِيئِنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. يُرِيدُ أَنَّ تِلْكَ هِيَ السُّنَّةُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ الصَّلَاةَ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيئِينَ كُلِّهِمْ.
وَأَمَّا التَّسْلِيمُ فِي الْغَيْبَةِ فَمَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: 79] ، وَقَوْلِهِ:
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [الصافات: 130] ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ [الصافات: 120] ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: 109] .
وَأَنَّهُ يَجُوزُ إِتْبَاعُ آلِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينِ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ دُونَ اسْتِقْلَالٍ.
هَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ تَحْرِيمًا وَلَكِنَّهُ اصْطِلَاحٌ وَتَمْيِيزٌ لِمَرَاتِبِ رِجَالِ الدِّينِ، كَمَا قَصَرُوا الرِّضَى عَلَى الْأَصْحَابِ وَأَيِمَّةِ الدِّينِ، وَقَصَرُوا كَلِمَاتِ الْإِجْلَالِ نَحْوَ: تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَجَلَّ جَلَالُهُ، عَلَى الْخَالِقِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ.
وَأَمَّا الشِّيعَةُ فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ التَّسْلِيمَ عَلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَآلِهِمَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ السَّلَفِ فَلَا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ الْغَضَّ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالصَّحَابَةِ.
وَانْتَصَبَ تَسْلِيماً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِ سَلِّمُوا وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَكِّدِ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِمَصْدَرٍ فَيُقَالُ: صَلُّوا عَلَيْهِ صَلَاةً، لِأَنَّ الصَّلَاةَ غَلَبَ إِطْلَاقُهَا عَلَى مَعْنَى الِاسْمِ دُونَ الْمَصْدَرِ، وَقِيَاسُ الْمَصْدَرِ التَّصْلِيَةُ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ اشْتُهِرَ فِي الْإِحْرَاقِ، قَالَ تَعَالَى: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الْوَاقِعَة: 94] ، عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَدْ حَصَلَ تَأْكِيدُهُ بِالْمَعْنَى لَا بِالتَّأْكِيدِ الِاصْطِلَاحِيِّ فَإِنَّ التَّمْهِيدَ لَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيءِ مُشِيرٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِشَأْنِ الله وَمَلَائِكَته.
[57]
[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 57]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57)
لَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى تَنَاهِي مَرَاتِبِ حُرْمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْرِيمِهِ وَحَذَّرَهُمْ
الصفحة 103