كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 23)

وَأَمَّا خُسْرَانُهُمْ أَهْلِيهِمْ فَهُوَ مِثْلُ خُسْرَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَغْرَوْا أَهْلِيهِمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِالْكُفْرِ كَمَا أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَهْلِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37] ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا [التَّحْرِيم: 6] ، فَكَانَ خُسْرَانُهُمْ خُسْرَانًا عَظِيمًا.
فَقَوْلُهُ: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ اسْتِئْنَافٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِأَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ خَسِرُوا بِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَحَبَّ مَا عِنْدَهُمْ وَبِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ جِنْسُ الْخَاسِرِينَ، يُسْتَخْلَصُ مِنْهُ أَنَّ خَسَارَتَهُمْ أَعْظَمُ خَسَارَةٍ وَأَوْضَحُهَا لِلْعَيَانِ، وَلِذَلِكَ أُوثِرَتْ خَسَارَتُهُمْ بِاسْمِ الْخُسْرَانِ الَّذِي هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ الْخَسَارَةِ دَالٌّ عَلَى قُوَّةِ الْمَصْدَرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ.
وَأُشِيرَ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِوَصْفِ خَسَارَتِهِمْ، بِأَنِ افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ دَاخِلًا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدِ تَمْيِيزَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَبِتَوَسُّطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الْمُفِيدِ لِلْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
[16]

[سُورَة الزمر (39) : آيَة 16]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ.
بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15] ، وَخُصَّ بِالْإِبْدَالِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ خُسْرَانَهِمْ عَلَيْهِمْ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى إِهْلَاكِ أَجْسَامِهِمْ. وَالْخُسْرَانُ يَشْتَمِلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخِزْيِ وَغَضَبِ اللَّهِ وَالْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ. فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ [الزمر: 15] .
وَالظُّلَلُ: اسْمُ جَمْعِ ظُلَّةٍ، وَهِيَ شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَعْوَادٍ مِثْلُ الصُّفَّةِ يَسْتَظِلُّ بِهِ الْجَالِسُ تَحْتَهُ، مُشْتَقَّةُ مِنَ الظِّلِّ لِأَنَّهَا يَكُونُ لَهَا ظِلٌّ فِي الشَّمْسِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [210] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [32] . وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلطَّبَقَةِ الَّتِي تَعْلُو أَهْلَ النَّارِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنَ النَّارِ، شُبِّهَتْ بِالظُّلَّةِ فِي الْعُلُوِّ وَالْغَشَيَانِ

الصفحة 361